أحضنك قبل رحيلك، أخبرك أنّي أحبّك. أدرك أنّ ترحالك لأن لا تندثر حيوات أطفالك. لكنّني أموت وأتجدد في غيابك. أدرك أنّ طفولتي ذهبت معك، وأنّ الأمان لن يكون معك. في رحيلك تبدّلٌ لحياةٍ أخرى. أدرك مقدرتي على تجديد مكنوني في ترحالك. أدرك أن الحبّ سيأخذ أشكالاً أخرى دونك.

أسترجع رحلتنا سويّاً، أسترجع الفرح والضحك والخفّة. الطرافة المُؤكّدة في وجودك. الذكاء المتين في الكلام. أرجع للأُبوّة فيك، للصلابة والسند عند الحاجة. الملجأ الآمن في عالمٍ يطحن فيك حتى النخاع. أعود للانتماء في حضور القبيلة. التآزر لتمكين كلّ ضعيف فينا. الحزن في تآكل العتم في البلاد والفرح في النموِّ الجميل فينا. يتوضّح المكنون الواحد في تواجدنا سويّاً. وأتساءل لماذا يأتي الوضوح في الاندثار؟

نأنّ مع هذا الانسلاخ. مع هذا اليُتم الذي يأخذ من رأسك وصلابتك. يأتي الفقد ليُعيدنا إلى ضعفنا، إلى تلاشي التآزر مع اندثار القبيلة. يأخذنا الهَجْر إلى السؤال عن السند، عن الهياكل التي تعيد لنا الآفاق والممشى. عن الأراضي والبلاد التي يُمكن أن نرى فيها بعض الحياة.

يأخذني فقدك إلى المعاني التي تتجدّد. الأجساد التي تختلق جلوداً أخرى لهياكلها. يأخذني فقدك إلى التسليم الأكبر باستحالة السعادة الكاملة وأنّ الدنيا في مكنونها هي الشقاء والتخبّط. أنّ الترحال الأسمى في هذا الوجود هو التخبّط بالأمواج كما هي. أنّ السؤال هو العبادة. أن أقرأ الوجود والأسباب.
في البحث الدائم عن الغائب، عن النقص. في السعي الدائم للكمال، للسعادة، للمثالية. لتلك الصورة الأسمى التي نكون فيها الأسعد والأجمل والأثرى. وكأنّ الدنيا دار الآخرة، تمنحك الفردوس الأعلى في بلاد الإفرنج، في تلك القارة الأوروبية. وبلادنا هي دار الشقاء، ويأخذنا الصراط إلى النعيم بقدر أعمالنا ومعاصينا. والرابح الأكبر هو الذي وصل، إلى بلاد النعيم الذين يُسقون من رحيق مختوم. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وكأنّ لا مساومات في ذلك الصراط، وكأنّنا لا نخسر من أجسادنا قبل وصولنا. وكأنّ المعنى نحمله وحدنا، في وجودنا البحت. لا ذلك الذي نصنعه في الرباط مع الأرض والقبيلة، في التآكل مع المآسي، في التقبّل المريح أن الفردوس ليست هنا. وأنّ لا راحة لمؤمن إلّا بلقاء ربّه.

يأخذنا التلاشي إلى الإدراك أنّ الفردوس لا تكمن في دار الدنيا، وأن نعيم البقاء هي خرافة غائبةٌ عن جميع المسارات. أنّ المَحْيا نفسه هو الخسارة والربح، وأنّ الألم عملٌ وجوديٌّ علينا فهمه بدل مقاومته. أن نُعيد التعرّف على ضعف قوتنا وقلّة حيلتنا وهوانا على الناس.  

يُعيدني فقدك إلى الله، إلى تجدّده فيّ. يُعيدني إلى الوصال خارج الوجود الجسدي، اللجوء مع الدائم الأوحد. إلى السعي إلى المعنى خارج حدود المكان والشخص، بل الحصول عليه في العواصف والتخبّط. أن أرى في الفقد والكَبَد الذي خُلقنا فيه ما يُأرّضني، ما يجعل في الوجود معنىً يستحق العيش. أتذكر أنّه هو الذي يُحيي ويُميت، وأن المَحيا والممات يشمل المعنى والواقع والأحلام. أن تذهب آفاق نأمل بها مقابل إحياء آمال أخرى.

أبحث في سؤال المعاني. عن الجدوى والممشى والنظر إلى المَحيا. يُعيدني فقدك إلى جبريل، إلى الوحي الأول، إلى”إقرأ“ والتخبّط مع جواب ”ما أنا بقارئ!“. وكأنّ القراءة غير محتكرة باللغة والكتاب، فأتى أمر القراءة إلى الأُميّ. فما هي القراءة الحق؟ وما هو المعنى والحياة في هذه الأرض؟ تُعدني القراءة إلى تلاشي مفاهيم السعادة الأبدية، وإلى رؤية النفسِ خارج الجسد. نتخلّى عن الطوباوية للرجوع إلى الحركة، نهجُرُ الهيكل ونسعى للاتضاح مع الواقع. نُعيد لأنفسنا بعض الخيال. نداوي أنفسنا وشلَلها بالقراءة. فالوحي أتى بفعل أمر” إقرأ“ والفعل هو حركة بعينها، عملية تتبدّل وتتطور وتتغيّر. يُعيدك الفعل إلى اتضاح تبدّل الأحوال، إلى زوال الدوام. أنّ الدنيا بعينها مُتبدّلة متغيّرة، فالسعي وراء الجماد سعيٌ مستحيل. فلن أرى جماد الغنى أو المعنى أو حتى الأمان، وأنّ عبادة الله بعينها تتطور مع المَحيا والممات في شروط الدنيا. وفي التبدّل خسارة وكسب، وفي السعي إلى أيِّ مُبتغى خيار تحمّل أنواعٍ من الضنك لكسب أنواعٍ أُخرى من الراحة.

يُعيدني فقدك إلى التسليم بضعف فردانيّتي وأنّي لست الأقوى والأمكن في وحدانيّتي. أتصالح مع الضعف لأُرحّب بالحب أينما نبع. أغفر لنفسي قلّة حيلتي والإعياء، وأرى أنّ القوّة تكمن في الضعف. في غياب العُجب بالنفس والتصالح مع حجمنا أمام هذا الكون. في التسليم للخسارة، شجاعة تمكّنك من الخوض. أنّي سأخسر حتماً وسأضعف حتماً فلا جدوى في مقاومة ذلك، بل أنّ الجدوى تكمن في اختيار الخسارات. سأحتاج الآخر حتماً، وفي حاجتي تلك هو المعنى نفسه. في خلق الاتّصال والرابط، وفي انعكاسه على الواقع وظروفه. أشارك نفسي لفهمها وتضمديها.

نخرج من ذواتنا فنخلق مساحات للحُبّ لأننا لم نُخلق فرادى، بل خُلقنا مع أرضٍ وقبيلةٍ وموروثٍ يُآزر ضعفنا ويوضّح أرواحنا ومُبتغانا. آيات الله في الآفاق وفي أنفسنا للتّبيان أنّه الحق. 

* الرسم لـ: هيا حلاو

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button