السنة 1986 والدنيا حرب مستعرة في لبنان وانهيار شامل. بدأ القلق يجتاحنا عندما حان وقت تخرّجنا من قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة. ثم ازداد خفقان القلوب عندما ظهر المعلّم روجيه عساف، أستاذنا في مادة التمثيل، حاملًا قِدْرًا كبيرةً. وقف لاهثًا في أسفل المبنى الشاهق عند باب المرآب الذي حُوّل إلى كافيتيريا للطلاب ومسرحَين صغيرين تفوح منهما رائحة الرطوبة والعفن.

ركضنا إليه لنخلّصه من ذلك الحمل كيلا يؤذي كتفه التي يتفكّك مفصلها المعطوب بفعل الأوزان الثقيلة.

ونحن نتناول منه القِدر نبّهنا إلى أن الوجبة جاهزة لكنّ وصفتها لا تزال باللغة الفرنسية، ويجدر بنا ترجمتها. ترجمناها وعرفنا مكوّناتها ثم أعدنا وضع القِدر على إحدى طاولات الكافيتيريا وراح كل منّا يصب ما طاب له.

هكذا توزّعنا في ما بيننا شخصيات المسرحية الغنائية "فرنك الخامس" للكاتب السويسري فريدريك دورنمات، لكي نقدّمها كمشروع تخرّج.

شخصيات خسيسة مبتزّة سارقة طمّاعة شريرة جشعة خبيثة فاسقة قاتلة، تجيد التلوّي والتلوّن وفق المناسبة والموقف. شخصيات من سويسرا الغرب أساسًا، تكمن غرابتها في شبهها الشديد بلوردات الحرب التي كانت تدور رحاها في سويسرا الشرق (لبنان) في ذلك الوقت.

وأما الفرق بين تلك الشخصيات ولورداتنا فيتمثّل في أن الأُوَل موظفو بنوك ظواهرهم حضارية أنيقة ومهذّبة ومفوّهة وبواطنهم ملطّخة بالدم كمئازر الجزّارين. فهؤلاء الأشرار في الخفاء، وفي بلد وديع هانئ يُحسد عليه آهلوه، يضاهون شرور لوردات الحرب في العلن.

من بين كل المسرحيات العالمية والعربية، اختار لنا روجيه عساف "فرنك الخامس" ربما كتدريب على مواجهة الواقع الذي ينتظرنا بعد التخرّج، فلا تخدعنا مظاهره مهما حاولوا تمويهها.

كتبها دورنمات وصدرت في 1959 وعرضت للمرة الأولى في 1960 في زوريخ. وهي تروي حكاية فرنك الخامس صاحب مصرف خاص بالوراثة والذي توصّل إلى قرار بيعه بسبب اشتداد السيطرة على المودعين بواسطة أنظمة التعاملات الحاسوبية. أنظمة بلا رأفة استفاد منها الموظفون الماكرون لتشديد الخناق على المودعين بحجة تنفيذ أحكامها الغاشمة.

أما فرنك الخامس فكان من ذوّاقة الفنون والآداب مع زوجته التي ربّت ولدهما وبنتها بمنأى عن دهاليز المصرف وارتكابات موظفيه الخسيسة.

ولكن، حدث ما لم يكن في الحسبان، فعندما عزم فرنك الخامس على البيع استولى ابنه على المصرف وبدأ عهد فرنك السادس مع اخته. وتبيّن أن كليهما تلقى تربية موازية في دهاليز المصرف الآسنة والعفنة كمسرح معهد الفنون.

يستوقفني الآن أمر مفجع: عندما حلّ "السلم الأهلي"، كيف نجح لوردات الحرب اللبنانية في تقمّص شخصيات المسرحية والتحلّي بأناقتها ولياقتها، بينما حافظوا في بواطنهم على مكرهم وجشعهم وتعطّشهم للقتل.

لا بد إنها لعنة فرنك الخامس!

الصورة: ملصق بولندي لمسرحية فرانك الخامس، فرنسيزك ستاروسكي، 1962

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button