هناك حقيقة واحدة ثابتة وواضحة لم تغب ليوم واحد طوال الأشهر الثمانية الماضية: إن السلطة الأخلاقية التي يرفعها الغرب في وجه شعوب العالم تم نسفها بشكل لا يقبل الجدل في ظل ازدواجية المعايير التي ظهرت في مواقفه السياسية والإعلامية. وتعبيراً عن هذا الواقع الجديد-القديم، صرّح رئيس الوزراء السنغالي (المستعمرة الفرنسية سابقاً) الجديد مؤخراً بأن "المجتمع الدولي قام بتطبيع الإبادة الجماعية ضد أهل غزة… لذلك نقف مع فلسطين حتى التحرير."

من المعلوم أن للمعاهدات الدولية أهمية بالغة في وضع المعايير وسُبل المساءلة. ولكن إمكانية إنفاذ هذه المعايير أصبحت الآن أكثر غموضاً نتيجة حالة عدم اليقين التي لا تهدد بتقويض هذه المبادئ فحسب، بل تشكك أيضاً بالدور الذي سيلعبه العالم الغربي مستقبلأً في عالم متعدد الأقطاب. مثال على إزدواجية المعايير في تعامُل الدبلوماسية والإعلام في الغرب مع مقتل سبعة من عمال الإغاثة الغربيين على يد الجيش الإسرائيلي مقارنة مع تعاملهما مع قتل أكثر من 30 ألف فلسطيني. ومن شأن ذلك إثارة التساؤلات حول القيمة المتصوّرة لحياة الإنسان الغربي مقارنة بقيمة حياة الفلسطينيين الذين يُدفنون في مقابر جماعية.

ولكن التدخل العسكري الإسرائيلي المفرط في غزة قدّم فرصة نادرة للجنوب العالمي لإسماع صوته وإعلان موقفه. لقد أدّى الدعم السريع والواسع النطاق من عالم الجنوب إلى تمكين بلدان مستعمَرة سابقًا، وبشكل جماعي، من فضح نفاق الشمال العالمي عندما يتعلق الأمر بالمساءلة والقانون الدولي. وبهذه الطريقة، تعمل الجهات الفاعلة في عالم الغالبية على تحويل السّرد بعيدًا عن الأطر الغربية المتمحورة حول "الأزمة الإنسانية" ونحو إطار قائم على ضرورة العدالة، المقاومة والتضامن.

المبادرة التي لقيت صدى واسعاً بين بلدان الجنوب جاءت من جنوب أفريقيا التي ساقت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية في محاولة لمنع الإبادة الجماعية المستمرة. وكما تظهر الإجراءات الوقائية التي أوصت بها محكمة العدل الدولية في هذه القضية، فإن هذا الاتهام ليس ذا مصداقية فحسب، بل قد يورط دولًا أخرى فشلت في اتخاذ التدابير في حدود سلطتها لمنع الإبادة الجماعية في غزة. وفي مثال أحدث، تم الاستماع في محكمة العدل الدولية أيضًا إلى قضية نيكاراغوا ضد ألمانيا لوقف مبيعات الأسلحة إلى الكيان الصهيوني. إن هذه المحاولة الجريئة لتحميل القوى الأوروبية المسؤولية عن دورها في إمداد إسرائيل بالأسلحة العسكرية تعكس رغبة من هم خارج التوافق الغربي في إعطاء الأولوية للأفعال وليس الأقوال في الردّ على انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي. وتشمل الإجراءات الأخرى الشكاوى المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية بشأن جرائم حرب محتملة ضد الشعب الفلسطيني من قبل الجزائر وكولومبيا وتشيلي والمكسيك وبنغلاديش وبوليفيا وجيبوتي وجزر القُمر. كما انتقدت ناميبيا ألمانيا علنًا لدعمها إسرائيل في قضية محكمة جنوب إفريقيا، مسلّطة الضوء على نفاق الدولة الأوروبية في ضوء تاريخها الماضي في ارتكاب الإبادة الجماعية لشعبي هيريرو وناما في الفترة من 1904 إلى 1908. وليس من قبيل الصدفة أن القرار الوحيد الذي يطالب بـ "وقف فوري لإطلاق النار" في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (في أواخر مارس 2024) قد تم تقديمه من قبل الأعضاء غير الدائمين. وقادت الجزائر هذه المجموعة المنتخبة التي تألفت في الغالب من دول الجنوب العالمي، بما في ذلك الإكوادور وغيانا وموزمبيق وسيراليون. ومؤخراً، اعترفت جامايكا وبربادوس رسمياً بسيادة دولة فلسطين، بينما أعلنت كولومبيا أنها ستقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل بسبب جرائمها في غزة.

إن التضامن القوي لعوالم الجنوب مع فلسطين، سواء في البيانات أو الإجراءات، قد تحدّى بشكل فعّال هيمنة خطاب دول الشمال ودعواتها لإرساء حكم النظام الدولي القائم على القواعد. وقد أدى هذا المدّ المتغيّر إلى إضعاف أي شرعية متبقية للشمال العالمي في تقرير كيفية تطبيق القانون الدولي ومتى وعلى من. فالقوى الأوروبية، لاسيّما منها المملكة المتحدة وألمانيا، معزولة بشكل خاص إلى جانب الولايات المتحدة باعتبارها حكومات مؤيدة صراحة للحرب الإسرائيلية الشاملة على غزة. وعلى الرغم من الاختلافات داخل هذه الكتلة، فإن الحسابات الجيوسياسية الغربية تتعارض بشكل متزايد مع توجهات باقي دول العالم، وهذا ما توضحه دول الجنوب العالمي باستمرار في تحالفها السياسي وتضامنها الأخلاقي مع الشعب الفلسطيني.

هذ التعارض يظهر أيضاً في داخل هذه الدول الغربية. فقرار الولايات المتحدة باستخدام حق الفيتو باستمرار في مجلس الأمن وتقديم 17 مليار دولار إضافية كمساعدات عسكرية لإسرائيل يتناقض حتى مع الأصوات الداخلية المعارضة لدعم إسرائيل، والآخذة بالازدياد يوما بعد يوم. وكان آخر نتائجها تصاعد تحركات الحركة الطلابية في الجامعات الأمريكية. وأدت هذه الأحداث الداخلية إلى إضعاف صورة النزاهة الديمقراطية الغربية.

ويعلّمنا تاريخ شعوب دول الجنوب العالمي والحركات العمالية والطلابية العالمية، أن جميع هذه الجهود المشتركة، تسهم، ولو تدريجياً، في تعزيز التضامن المتين والمتزايد مع فلسطين. إن هذه الحركة المبنية على التجارب المشتركة والشعور بالالتزام بمواجهة المظالم التي شهدتها هذه الشعوب في السابق، في مواجهة غرب يدّعي سلطة أخلاقية، لا يمكن إلا أن تغيّر عالمنا في شماله وجنوبه. 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button