لو خرجت تظاهراتٌ تضامنية مع القضية الفلسطينية في أندونيسيا أو الكونغو أو الأرجنتين أو حتّى روسيا أو الصين ربّما لما كان أحدٌ منّا توقّف كثيرًا عند الخبر. وهذا أمرٌ مفهومٌ طالما أنّ هذه الدول وشبيهاتها ليست من تلك المشاركة في الحرب على الفلسطينيين، كما هو الحال مع الدولة الامبراطورية الأمريكية. خروج آلاف الطلاب الجامعيين في عدد كبير من الجامعات الأمريكية المرموقة أو النصف مرموقة صار حدثًا كاد أن يغطّي على الحدث التأسيسيّ، أي المقتلة في غزة وفعل الإبادة اليوميّ الذي يمارسه الاحتلال الصهيونيّ، بمشاركة مباشرة أو غير مباشرة من مجموعة من الدول والأنظمة، على رأسها، وفي مقدمتها، ومحرّكها الأساسيّ، أمريكا. أمريكا القاتلة وأمريكا المتضامنة، أمريكا أكبر مصدّر للسلاح وصانع للحروب في العالم، وأمريكا نفسها أكبر مصدّر لناقدي الأنظمة وأطياف الثوريين والمتمردين والانشقاقيين كارهي نظام "اليانكي" المعاصر، وفيهم المثقفين والأكاديميين والطلاب وحركات الهوية المتمرّدة والمنظمات اللادولتية، والهيبيين الجدد، وما لفّ لفهم من ليبراليين تقدميين وليبراليين وسطيين دستوريين وليبراليين يساريين ويساريين ديمقراطيين ويساريين انقلابيين وثوريين وشيوعيين واشتراكيين ولينينيين وستالينيين وتروتسكيين وماويين وخوجيين وشيوعيين نقديين وأناركيين وكويريين، عدا عن الاسلامويين والعرب واللاتينيين واليهود المعادين لاسرائيل(أو على الأقل لهذه النسخة من اسرائيل)...خليط أمريكيّ يبدو للوهلة الأولى غير متجانس ومتفجّر، إذ كيف يمكن لأمريكا هذه أن تلمّ شمل أقصى اليمين الرأسماليّ العسكريتاريّ الامبراطوريّ المستميت دفاعًا عن فكرة اسرائيل واستمراريتها، وأقصى اليسار الأممي المناهض للمركزية البيضاء الغربية وللكولونيالية والهيمنة الكونية للرأسمالية والعولمة الذي يمكنه رفع أعلام القسّام والمقاومات العربية والاسلامية وصور الضيف وأبي عبيدة ونصرالله وغيرهم من أعداء واشنطن على مقربة من البيت الأبيض؟ 

يدعونا هذا السيل الجارف لهذه الجموع من المتضامين الغاضبين في الجامعات الأمريكية المتحالفة منذ تأسيسها مع ضروب متنوّعة من أنظمة القمع والاحتلال والاستبداد، يدعونا في لحظةٍ ما إلى "التفاؤل بالخير" لأنّ ذلك سيصبّ في مصلحة الفلسطينيين في نهاية المطاف (لأنّه قد يضغط على إدارة بايدن ومعاونيه في خضّم التحضير للانتخابات الرئاسية، هكذا يُقال والله أعلم)، لكنّه نفسه يجعلنا نتشكّك في معنى التضامن السياسيّ. والتشكّك لا يعني التشكيك في نوايا وصدقية المتضامنين والمتضامنين وتظاهراتهم أو في ضرورة التضامن مع المضطهَدين والمستعمَرين والمظلومين (والبداهة الانسانية توجب ذلك)، بقدر ما يعني التفكّر في محدودية التضامن هذا والتخفيف من شدّة الأوهام التي يولّدها أو قد يولّدها، وكذلك التخفيف علينا ممّا هبّ ودبّ من تحليللات وتعليقات سياسية صارت مملّة (اليوم وسط الابادة أكثر من أي وقتٍ مضى) تعظّم فيه ما ترغب بتعظيمه وتصغّر ما تكرهه.

لماذا التعويل على التضامن الجامعي والطلابي في السياق الأمريكي قد يكون مليئًا بالأوهام والفخوخ؟ لأنّ ببساطة هو تضامن أمريكيّ، لا بمعنى أنّ كلّ ما يصدر من أمريكا وما تولّده هذه البلاد بتاريخها وحاضرها هو "شرّ مطلق" أو يجب رفضه لأنّه مؤامرة ومشهد مسرحيّ وما شابه من أقوال..الخ بل لأنّ التضامن هذا، اليوم وبعد أشهر من الإبادة والسنين من الحصار والعقود من الاحتلال، يظلّ فعلاً سياسيًا أمريكيًا بحتًا، بمعنى أنّه من "قلب السيستام" ومنطقه ولعبته وطرائق تجديد نفسه. إنّ ما يفعله التضامن الأمريكيّ هو تأكيد مُضاف على أنّ العالم رأسه أمريكا وقلبه واشنطن وشريانه في نيويورك، وأيّ تغيير منشودٍ في العالم لا يحتاج إلى الإدارة الأمريكية الحكومية الرسمية فقط، بل أيضًا إلى معارضيها أنفسهم، بوصفهم أيضًا "المركز"، هذا المركز الذي لم يعد اليوم يحتلّه عنوةً واحتكارًا "الرجل الأبيض" الاستعماريّ التقليديّ القديم، بل صار التناوب عليه ممكنًا بين اليمين واليسار، والمحافظين والليبراليين...الخ (والإدارة الأمريكية الديمقراطية اليوم فيها خليطٌ من هؤلاء كلّهم، وبإمكانها إرضاء الكلّ عربًا وملوّنين ومثليين وترانس واشتراكيين ورافضي التسلّح، إلى جانب الصهاينة المسيحيين وممثلي شركات السلاح وأدعياء نقاء العرق والجنس ومن لفّ لفهم).

إنّ أمريكا النابذة لتحرّر الشعوب واستقلالها لا تكتمل صورتها الاستعراضية إلاّ بأمريكا المتضامنة، أمريكا الحريات ودستور الاستقلال والضمير الانسانيّ العالميّ الحيّ. فالحرب على فييتنام لم تكن لتصبح أمريكيةً حقًا لولا جموع الملايين من الأمريكيين الذين احتلوا أوسع الساحات رفضًا وقتها لهذه الحرب. وهكذا تنفّر أمريكا العالم (فهي تدعم الإبادة)، ولكن سرعان ما تحبّبه بها (فهي موضع أشدّ المتضامنين مع الذين يُبادون). 

....لا يعني كلامنا عن أمرَكة التضامن تفريغ هذا الفعل الذي يحتشد له الآلاف من الامريكيين وغيرهم من بعده السياسيّ الأخلاقيّ، ولا التقليل من تأثيره وأهميته لقضية مثل القضية الفلسطينية، بل يبغى وضع الحراك التضامنيّ في سياق انبنائه ضمن منظومةٍ متكاملةٍ لقوّة امبرياليةٍ هي "الخصام والخصم والحكم".

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button