وفي النهاية، التي هي من المفترض بداية النصّ هنا فعلياً، ما الذي يريد بعد البني آدم فعله هنا أو قوله؟ في النهاية، سنكون هناك وقت الحادثة كالعادة، أي حادثة كانت، أينما كنّا، سيحصل شيء ما لنا، سوف نتضرر بشدّة، سنفكّر في الذهاب بعيدًا، وسوف نأسى على كل حلم وأي شيء لطيف. سنرى، في النهاية، أن الأشياء الجميلة موجودة فقط للزينة، وقد تعلّمنا أن الفخ هو أن تنسى أن الاستمتاع بالجمال في هذا العالم يشترط يقينك من زواله قبل كل شيء، وأنه راضٍ كما يبدو بمصيره المؤسف، ومفطور عليه، وأنت الوحيد الساخط في داخله عن مصيره، وسيصير هذا مقياسك وطبعك الدائم، ولو حققت ما تريده على المدى البعيد. 

دائمًا وأبدًا، في البدء كان الكلمة. الأقرب إلى المتناول فحسب، ربّما الدمعة إن وُجِدَت تسبق الكلمة، لكن الكلمة توجِد القارئ، والدمع لا يوجِد غير الكف التي تمسحه بسرعة.

 متى سأتوقف عن كل هذا فعلياً، وأوقف انفجار الجمل بين يديّ، هذا التشظي الذي يوصف لاحقًا بأنّه "شعري". متى أوقف هذا الاستمناء اللعين والتفرغ لابتداع لغة ما، لغة أقول لها: افتحي الباب، ضعي آخر ألعاب البرميير ليغ، اجعلي ميسّي يُحرز أول أهدافه مع النادي الجديد. عليّ أن أصبح تافهًا في أقرب فرصة، إن هؤلاء التافهين يُحرزون ما يريدون، ليس بالضرورة أنهم يكسبون شيئًا، لكنهم لا يشعرون بمعنى خسارة أي شيء فحسب. عليّ التوقّف قريباً عن كل شيء والذهاب، خصوصًا عن الكتابة. قال أنسي الحاج يومًا في خواتمه ما معناه "الشعر كلام الصمت"، لكن من غير المحتمل أن أعبّر عن كل شيء شعرًا لو استطعت من الأصل. ماذا يعني أن أكون صامتًا عنوةً رغم كل الكلام الذي نهذر به يومياً؟  لقد كانت الرغبات الأساسية بسيطة جدًا، كيف حدث ما كان لاحقًا، ومن أين ابتدأت كل هذه الشربكات؟ لا أحد يعرف. هل كنّا نعيش منذ البداية بشكل خاطئ، أم أن بيكار التطلّعات كان أوسع من اللازم يعني؟ هل فعلاً كوب كاكاو مع سيغارة لا تلعن أم صحّتك، هي أشياء زيادة عن اللازم؟ هذا ما يبدو عليه الأمر.

أنا أكذب بالطبع، تعرف.. أحاول العبث، أحدّثك كأنك قربي تدلق لي الشاي. أشعر بالأسى فحسب. أنا كالأم التي تهدد بالرحيل، تحزم أغراضها، ثم تنظر إلى المجلى، فتجد صحنًا متسخًا، تتأفف وتقول: ستمتلئون بالخراء لو تركتكم الآن، ثم تعود وتستقر. في هذه الأوضاع، قد تقوم بهذا الأمر مرتين في الأسبوع. 

 

في كل اصطدام وجوديّ أحاول زج المسألة في اللغة، أحوّل المشكلة إلى إشكالية لغوية، فإن توصّلتُ إلى القدرة على التعبير من بعد ما حصل للغة أثناء احتكاكها بالمشكلة، أكون قد نجوت مبدئيًا. المشكلة هنا هي التالية: لقد تغلغل الصمت إجباريًا في النفس، وها هو الصمت  قد تغلغلَ في نسيج اللغة. والآن تتضّح الإشكالية: كيف تعبّر بلغة متعفّنة يتناخرها الصمت. نعرف أنّ الخيال يشتدّ في هكذا أوقات، كمن يحكي قصّة قبل النوم لأطفاله من أجل جعلهم ينامون والقصف مستمر بعنف في حرب على مقربة. ألا تلاحظ أنه لم يعد كافيًا أن تقول: أنا متعب، وتحسّ أنّ اللغة حملت شيئًا من هذا التعب بعد التعبير عنه: "أنا متعب". لم يعد كافيًا بعدُ قولك: "أحمل الصخرة كسيزيف" مثلاً، فالإحالة أيضًا مثلها مثل التعبير المباشر، لم تعد تحرّك فيك شيئًا. أصلاً لم يعد فيك حيلٌ لتقعد وتبتدع الكنايات والاستعارات والإحالات عداك عن تلقّيها. من حسَمها فعلياً هاجر ولم يبحث في المسألة وما التفت إلى الخلف، وترك البحث لنا وعلينا. مفروض عليك استعمال القدر الأدنى من اللغة - هذا ما يسمح به الجهد المتبقي - للوصول إلى أكبر قدر من التعبير أو العبور. ولن تستطيع على هذا التراكم اليومي من متطلبات جديدة ومحاولة خلق آفاق مختلفة، أن تقول كما قال بسام حجار "لكّنه مجرد تعب". آه نعرف حقًا ما هو التعب، نفهم عليك تمامًا، نحن أيضًا متعبون، ما الذي في استطاعتنا قوله لك يا صديقي، حتّى اللغة متعَبة، وأنت على الأقل قد عبّرت عن الأمر، فهل أكون متّسماً بالصدق أمامك إن كنتُ ركيكًا، أم أنّك ستحتسبها عليّ نقطة سوداء؟

الصيام عن الكلام، ممم فكرة جيّدة، فأنا على كل حال، ليس عندي شيء مهمّ لقوله. سأكتب على أوراق مكعّبة كل ما أريده: "فنجان قهوة لو سمحت ليس بمقدوري الكلام / علبة سجائر سيدرز طويل قديمة / كم تريد ثمن التوصيلة / كيف 20 ألف يعني إنها فشخة يا لعين / نزّلني هنا إذا بتريد".. ولن أكتب شيئًا على الورقة من أجلكِ أيتها السمراء، فأنا لم أكن مكلّمكِ على كل الأحوال. لم أعد أعرف كيف أرغب شيئًا، معي في الجيبة 4 أو 5 ملايين، لا أحد متيقّن من ذلك، أخرج من المكتبة وأفكر في كيفية الرجوع إلى البيت بعد أن رهنت سروالي في الداخل. 

المدينة أيضاً متعَبَة: الزبالة عند مفترقات الطرق هي رائحة إبط المدينة، وحين أمطرت قبل أيام، تخيلت المدينة كلبًا متسوّلًا مبتلًا قرب القمامة. الحياة فيها تلك التي تفرض عليك أن تبقى وشأنك اللعين، ألا تتدخل في شيء أو تساعد أحدًا أو تبتسم في وجهه، مظهرةً لك أن مد يدك لأحد ستجعله يعضّها في هذه الأوضاع، أو أنك ستعض اليد الممدودة إليك.. الحياة وأنت تعمل فيها؛ يزيدون لك راتبك بسبب الأحوال المعيشية، فتفكر وأنت تمر عائدًا إلى البيت قرب متسوّل، تفكر بسخافة وعبثية كبرى: ألا يطالب هذا برفع شيء، الآن فعلياً في هذا الوضع، بحقّ الرب، كيف يعيش؟؟ إن كنا نحن قمل المدينة / الكلب، فما هم المتسولون فيها؟ هل هم إنسانيتها المتبقية؟

أمّا بعد، ماذا بعد؟ 

وداعات بائتة. إلى اللقاء الذي هو لقاء من أجل أن نقول: إننا نحرز تقدّمًا ما، غير التقدّم في العمر.

الصورة: المصدر مجهول

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button