ها قد أمضى صيفين كاملين في عمله الجديد. لا شكّ أنه أحرز تقدمًا حاسمًا في أخذ المواعيد على محمل الجد. بات يصل متأخرًا نصف ساعة فقط، مع أنه لم يبدّل كثيرًا من روتين صباحه: الفطور وجبة ممتعة؛ كوبٌ من الماءِ لدواعٍ صحية؛ القهوةُ وسيغارةٌ واحدة، ثم يمضي. 

قبل ثلاثِ سنوات، عجزتِ المؤسسة السابقة عن التعامل مع غيابه المستمر، أو قدومه المتأخرِ ساعتين لأسبابٍ لن تبدو منطقية لو أفصح عنها: قتل جدّه مرةً وأصيبَ بنوباتِ رملٍ مرّاتٍ عدّة. غير أنه في الحقيقة، يجد سريره أحيانًا، أكثر دفئًا من أيّ مترٍ مربعٍ خارجه، ما يعتبره سببًا كافيًا ليغرق فيه يومينِ متواصلين، برفقةِ أحدِ المخرجينَ الذين كدّسهم في ملاحظاته لأيّام كهذه. لن يردّ على الهاتف طبعًا. ماذا سيقول لصاحب العمل على أيةِ حال؟ أن البرد مناسبٌ جدًا للقسوة التي يبعثها الريف الإيراني من فيلم "أين يقع منزل صديقي؟" وأن الأحلام، كما البرد والحزن والموت، لا تجيء بعد الدوام الرسميّ للمؤسسة، بل لا تجيء إلا في الصباحات الباكرة لتصرّح بأن العمل لن يساعد أحمد بور في العثور على منزلِ صديقه، لذا عليه البحثَ عن حلمٍ مختلفٍ لهذا اليوم؟

يطرح هذه الأسئلة على المعالِجة. يحاول أن يشرح لها محنته مع الوقت، وشعوره العتيق بالتفاهة تجاه كلّ ما يقوم به تقريبًا. يصف لها العجلة الكبيرة؛ كيف صنعها في العاشرة لترتب يومه، وكيف بذل جهدًا كبيرًا، ووقتًا كثيرا في خياله آملًا في أنها ستبدّل حياته من طفلٍ مملٍ إلى محققٍ، أو جاسوس. وضّح لها كيف أن التطبيقات الكثيرةَ والملاحظات اللاصقة والملونة منها أيضًا، لم تلتقط أيًا من مهامه في العشرين. وكيف أن الوقت يمضي مسرعًا، وخفيفًا، حتى يصطدم بشكاوى المنتظرين، أو حتى يتنبّه هو، إلى واقعٍ أقلّ وسعةً من خياله؛ لم يغدُ محققًا، ولا امتلكَ صفة واحدة للجواسيس عدا التخفي.

كان الكون بالنسبةِ إليهِ خيالاً؛ فضاءً أكثر يسرًا، يساعده على الهرب من العنف والبؤس والوحدة والحب، وعدمه أيضًا. فبالخيال وحده نقتل الزمن؛ نقطًعه تارةً، مرة واحدة إلى الأبد، أو نعيد إحياءه تارة أخرى، مراتٍ كثيرةً. هكذا استطاع التعرّف على الله لأول مرة في صغره؛ لا شكّ أنّه صاحبُ الصوت الذي يصدح بالنعاوي في أرجاء القرية عندما يتوفى أحدهم. أسعدته الفكرة واحتفظ بها لنفسه وقتًا طويلاً، كمن أدرك حقيقة ما، وخشيَ أن أحدًا لن يصدّقه، إذ أن الكبار غالبًا ما ينجحون بجعل الأشياء مملة أكثر مما تبدو عليه في رأسه. ولهذا مقت المدرسة، والعمل في عمرٍ لاحق، وظلّ يسأل: لماذا نتوقف عن اللعب إن كنا سنموت في نهاية المطاف؟

إنّك تعاني من نقصٍ في الدوبامين، تردّ المعالِجة، إثر اضطرابٍ في النمو العصبيّ. وهو حتف يصعب تجنّبه، لأنّه بيولوجي بالأساس، ولهذا السبب تفتقر إلى تصوّرٍ منطقيّ للوقت، وتُكثر من أحلام اليقظة، وتجدُ صعوبةً في مقاومة الإغراء.

أراد أن يبكي كثيرًا، لكنّه لسبب ما، انفجر بالضحك. عايش شعورًا مشابهًا جدّا حين اعترفت له آخر امرأة أعجبته بأنها لا تبادله الحب، بل تستمتع بمشاهدته يرتعش أثناء القذف ليس إلا. فأحس، حينها، بحب خالصٍ لها، ليس لشيء سوى لأنها جعلته يشعر بوجوده في تلك اللحظة. حصل الأمرُ عينه عندما أدرك في صغره أن الله ليس سوى رئيسِ بلديةٍ يلدغُ بالراء عبر مكبّر الصوت، فراح يفتش عنه من جديدٍ، حتى قتله أخيرًا؛ ومن ثمّ، نصّب نفسه إلهًا، وأقصاها لاحقًا هي الأخرى، وأعاد البحث. 

فعلى الرغم من وقوع هذه التجلّيات عليه ككومة حجارةٍ، تحوّله لشدةِ ما تحطّم من تصوراتٍ في رأسه، إلى كائنٍ أكثرَ خفّةً من الغبار. فهي تصدمه بالواقع وتجعله حقيقيًا أكثر من أي مرةٍ سابقة. هكذا فقط كان يتلمّس المعنى؛ أي أن في بحثه عن الأجوبة أو عن التجربة الأكثر حقيقية، كان يبحث عن الواقع، أو عمّا يجعل خياله يتوقف لبرهة وحسب، ليتمكن من إعادة تشكيله. 

ليست الحقيقة وليدة الواقع، بل على العكس؛ إنّها نتاج العلاقة الغريبة بين الواقع والخيال، والتي تشبه في ماهيتها علاقة المواجهة بين السؤال والجواب. فالواقع (أو الجواب عند موريس بلانشو)، يحرمنا مما تحمله الاحتمالات من ثراء، فهو يؤكّد ما هو كائن، وبهذا لا يجد الخيال تتمتّه واستمراريته إن قبل أحدٌ بالواقع كما هو، بل ينتهي وينغلق. أمّا الخيال في المقابل (أو السؤال عند بلانشو أيضًا) فحركةٌ يغيّر فيها الوجود مجراه، فيظهر كإمكانية مرهونة بدورة الزمن. وعن طريقه نعطي لأنفسنا ما تريد ونمنحها الفراغ الذي يمنعها من تملّكه، أو يمنعها من تملكه إلا كرغبةٍ. ينطوي الخيال على هذه الرغبة التي لا تكتمل إلا بمواجهة الواقع. لكن ليس على الواقع أن يذيب الخيال، بل يجب أن يستعيد ماهيته ليظل المرء قادرًا على تغيير الأوّل. 

تأتي زيارة المعالِجة إذًا كإقرارٍ بأنه أصبح جاهزًا لغسلِ خياله وخلق واقع مغاير. هو ليس بنبيّ مغامرٍ كما تهيّأ له. إنّه مضطربٌ بائسٌ فقط. لكنّه إن اكتفى بجوابها فإنّه حتمًا سيموت من الملل. الاضطرابُ ضرورةٌ، يفكّر. إن عالمًا غارقًا بالإيجارِ والفواتير ودوامِ العمل هو عالمٌ ينبغي على المرء الهرب فيه. لن تنقذ الاستقامةُ أحدًا. لن ننجو إلا عن طريق اللعب؛ أي عن طريق الأفعال التي لا طائل منها سوى المتعة. 

الصورة: رمسيس يونان (1944)

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button