- لماذا اخترت أن تتقمص أناساً آخرين؟

مارلون براندو: كل شخص في هذه الغرفة هو ممثلٌ، حتّى أنت، وأفضل أداء شاهدته هو حين يقول المخرج " إقطع / cut".

حين لا أعرف كيف أبدأ بتناول موضوع ما، ألجأ إلى اللغة، بالتحديد إلى ما يسمونه التعريف اللغوي ثم يتبعونه بالاصطلاحي في الأبحاث، وهذا ما فعلته الآن مع فارق أنني دخلت بعدها في تعريفات مختلفة تماماً، أتمنى ألا أكون قد بدوت فيها مجرد مجنونِ ليلى آخر. وجدت ككل كلمة، أنه يختلف معنى "قَطَعَ" حسب سياقها الذي تظهر فيه. من معاني القطع جاء التالي: التوقّف والتفصيل والضرب والتجزيء والمنع والعبور... وفي العامية اللبنانية نقول باللفظ "أَطَعْ"، أي كذلك الأمر، مرّ وعَبَر. أوّل ما قد  يبدر للذهن، هو غرابة ارتباط العبور بالقطع، أي اشتراط وجود الجسر-أداة العبور المألوفة- بوجود العائق، من هوةٍ أو أنهار أو جدار أو إلخ. هو إذن الجزءُ في مواجهة الكلّ، أي الغصن المقطوع في مواجهة الشجرة التي قُطع منها. تساؤلٌ حول الأنا والهوية، لا تسألني كيفَ ذلك إذا انتابك السؤال؛ القطع هو ضربة لهوية المنتمي، وليس الأمر لعباً عبر ثنايا اللغة كما يبدو الأمر، أو قد يكون كذلك حتّى، ما الفرق حقّاً. بالنسبة لي؟ لا فرق كبير، فلقد انفتح النصّ، وهذا هو المطلوب. 

وفي اللغة أيضاً أداة القطع هي أداة التأكيد، اللغة غير مهتمّة كثيراً بالإشكاليات التي حصلت، أين انوجد هذا القطع وكيف وعااا..إذا رتبنا المعطيات السابقة نحصل على المعادلة: قطع = سدّ/حاجز+تَفَتُّحُ إمكانية فعل العبور أثناء المكوث، بالتالي = تأكيد ما هو موجود داخل "الوجود المقطوع"، تأكيد ذاته، بانفصاله عن الكل الكامل والمستقلّ. لم نذكر كيف ولماذا ولم نقيّم المقطوع منه ولا المقطوع عنه، وأي منهما أجدر بالاستقلال في كيانه الخاص. فقد يكون المقطوعُ منه مثلاً كياناً زائداً معادياً للنسيج الكلّي، كما هو الأمر مع الكيان الصهيوني هه، فهنا أصبحنا نتكلّم عن ورمٍ خبيث، نتيجته الاستئصال، والورم هو التصاقٌ عنوةً، بالتالي هو زائف وزائل.

ثم ماذا؟ في الروايات الدينية، نحن هابطون من عالم كلي متكامل المعالم، حصل بيننا وبينه قطع، والقطع بما أنه سماوي، فهو قطعٌ عمودي، بالتالي هبوط، بهذا كان من معاني الإنسان: هو الذي يتراجع، هو الذي يندم، ثم هو الذي يعود. لكن أفضل شيء نقوله: هو الإنسان الذي يتراجع عن وإلى. الإنسان هو الذي يتراجع، هو الذي يخرج. وأريد أن أكمل الفكرة وألا أقطعها، لكن اللهم إني صائم. طيب. 

-تاكسييي! 

-تاكسي أو سرفيس؟ 

-لم أستطع حتى الآن أن أحفظ الفرق، هيا لا بأس، هل تقبل أن أقول لك: مقعد؟

-إنزل يا حبيبي إنزل.

-بأمرك يا عمّ. 

وأنطلقُ مشياً على الأقدام والأحرف. 

الموقف هو التالي: أنت في سيارة وعجقة سيرٍ واصلةٌ للرُكَب. تنظر من فوق رأس التاكسي –الذي رَكِبتَهُ أنت- ما الذي يحدث؟ يقولُ لك: مقطوعة. محتجّونَ ويطالبون... ماشي. ثم تقول في نفسك- أنا هذه المرة من يقول لنفسه فأنت ليس لك جلادة، أعرف، والحر يضيّق خُلقك- أقول: ماذا يفعل بني آدم مقطوعة الطريق أمامه؟ ما المفترض أن يفكّر ويحدث.. تتصاعد أفكارك، تشرد ثم تعلو الكاميرا مظهرة السيارات المصفوفة خلف بعضها البعض، أصوات زمامير وشتائم، سواعد السائقين مدندَلةٌ على أطراف الشبّابيك، الطريق منفضة سجائر هائلة، وأنتِ هناك تطلّين من نافذة بيتكم بكسلٍ، تراقبين الناس، أراكِ فأنسى الموضوع برمّته، وأشكر الحياة على أعطياتها المباغته.

 ساينس فيكشن طبعاً. يااا أخي المهم.

إذا أخذنا صورةً مقطعيّة للطريق المقطوع من الجو، سيظهر أمامك مشهد طريق ممتلئٍ من ناحيةٍ، وفارغ تقريباً من الناحية الأخرى، المشهد هذا إذا صغّرناه، سيتمثّل أمامك منظرُ: الكوب نصف الممتلئ ونصف الفارغ. لن ندخل في لعبة التساؤل السخيفة: الكوب نصف ممتلئ أم نصف فارغ؟ فالمهم فعلياً هو أن ما تملكه من هذا هو دائماً: النصف الممتلئ. هو لك. لا أعني أن تستسلم، لكن دعنا ننظر على الأقل للمسألة ثم ليتبدّ ما يشاء. فكما كل شيء، معضلة كل إنسان هو ما يريده، وما ليس له دائماً، ولن يكون. تريد النصف الفارغ بحميّة، أو تعود مصاباً بالخذلان والميلونخوليا التي لست شاعراً مثلاً لتستمتع في تلوّيك من الألم داخلها.  كذلك الأمر مع النصف الفارغ من الطريق، مستقبلُ الوصول الذي تراه ولن تصل إليه. الطريق مقطوع: لن تصل. قل باي باي للوصول، تريد الوصول ههههه لا صعبه. 

انقطاع الطريق هو الانتظار. البحث عن مخرج يميناً ويساراً، نظرٌ في "الموقف" بالمعنى السارتري للكلمة، كما ترى، ها أنت مجبراً سوفَ تتحوّل إلى فيلسوف ظاهراتيّ وجوديّ دون أن تشعر. الانقطاع هو ما لا تصل إليه ولن تصل في المدى القريب ربما. وبما أن القطع يعني فيما يعنيه لغوياً التأكيد والتثبيت كما أسلفنا، فإن الوقوف أمام عائق يعطيك حالة تساؤل في معنى وجدوى الوصول كلما طال الوقت "لماذا أتيت؟ لماذا يحصل هذا؟" تبدأ في التفكير في الجانبيات علّ الوقت ينقضي "هل بدأوا من دوني؟ هل هذا تاكسي أم سرفيس ههه؟ ما الذي تفعله تلك المجنونة الآن يا ترى؟ لو كان السينيكال هنا لأصيب بنوبة هلع حتماً هههه.. هل تركت الشاي يغلي على الغاز كالعادة؟ هل احترقت الشقة ومَن..." ثم يَقطعُ حبل أفكارك صوت شتيمة من شجار في الأمام. تدخل في العبث، ثم تبدأ في التفكير بالتراجع على عقبيك، وهو ما أسلفنا مع الأسف قولَه في أن الإنسان "هو الذي يتراجع". أن ترجع نفس المسافة التي قطعتها! يا إلهي عبث! ويبقى لك أنك انتظرت وتراكم انتظارك هباءً! أشعر أني أتفلسف، لكن لا بأس في ذلك، فليس عندي شيء جاهز أعطيه ولا شيء يجهز أصلاً حين تحتاجه بالفعل. هناك أنت فقط، وقد يكفيك هذا حالياً، عليك أن تنجو من هذه الجزيرة متشعبةِ الحدود. إذن، أنت لن تملك شيئاً في واقع الحال، واللحظوية مجرد استمناء ومواساة. أنت تعطي لغيرك، هذا آه ممكن. مثلما يعطي لاعب كرة السلة ويمرر لغيره في لعبة هدفها المناورة لكن دون سلة ولا سلام دانك ولا هم يحزنون. الوصول هو المداورة. إنه دورك، خذ ورائي. خذ الوراء كله، خذ الماضي والتاريخ والتراث والحكمة. هذا التراكم نفسه الذي يحصل حين لا تصل، تتفقد زوادتك، وتعيد ضبط البوصلة، البوصلة التي هي عادة في هذه الحالة، مثل بوصلة جاك سبارو، تبدو خرقاء معطلة، لكنها تدلك على ما تريده بشدة دوناً عن غيره. أتساءل إن أعطينا هذه البوصلة الى الفيلسوف سينيكا مثلا، ربما يبتلعها ويحوزق حتى اليوم التالي. المهم، لا تصل، لأن الطريق مقطوع، هناك وراءٌ كثير قطعته، وفي النص أشعر أنني ألعب تنس بكرة غير مرئية. 

قد تكون هذه الفائدةَ الوحيدة لأن تنقطع فيك السبل: أن تعيد النظر فيها. 

القطع من وجهة نظر مشهديّة سينمائية، هو دعوة لتغيير اتجاه الالتفات، أو على الأقل التمهيد لمشهد جديد. هو بذلك دعوة لعملية التحرير الفني، بما يشمله مصطلح تحرير كتابي أو فكري في هذه الحالة، من إعادة قراءة وتصحيح وتموضع وإضافة مؤثرات، وتوجيه وضخّ، مرةً جديدة. 

قد تكون هذه هي الفائدة الوحيدة لأن تنقطع فيك السبل: أن تعيد النظر فيها. 

في النهاية لولا سكة حلب المقطوعة لما أكرمنا حسام جنيد بأغنيته يعني، ولو قرأ هذا العدد  لتراجع من فوره عن المحاولة واكتفى بألا يحرك ساكن. أصلاً سكة حلب المقطوعة جعلت علاقته مع الله أقوى، فما طالع بيده غير أن يصلي ويدعو لله. أولّ أوّل! آه يا جلجامش هذا العصر اللعين الذي لا يقدّر الفن الحقيقي.

ونسيتُ أن أقول لك، من معاني القطع أيضاً، هو إعلان النهاية عزيزي، فعِمتَ مساءً 

CUT!

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button