تعريف مصطلح الـ "داد-آند" (Dead-end) باللغة الانكليزية في معجم كامبريدج:

- حالة لا أمل منها بتحقيق أي تقدّم.

" وصل المتفاوضون إلى طريق مسدود في محاولاتهم لإيجاد حل سلميّ ".


في هذا اليوم الربيعيّ بامتياز، تلقّيت دعوة من صديق لبناني للمشاركة في عدد رحلة عن الطريق المقطوع. دار اللقاء في حديقتي التي تعلو منزلي، حيث جلسنا نتحاور بهذه الثيمة الساخنة مع فنجان قهوة تركية، تحت براعم زهر أشجار الخوخ... ارتشفت كلمات صديقي الذي حدّد بها لي الملامح العريضة لهوية المجلة الثقافيّة والسياسيّة وخطّها التحريري: تجريبيّة، سفليّة، حرّة… ثم باشر  بعرض تفاصيل المشهد البيروتي الحالي: السلطة السياسية، الوضع الاقتصادي المتهاوي، الدور المتعاظم للمؤسسات وللمنظمات غير الحكومية، الحركات الدبلوماسية للسفارات…

بين العار والغضب من هذه الحالة، أحسست بالرهبة أمام فكرة الكتابة في مطبوعة لبنانية، إذ كيف لي، أنا الفرنسي الغربي من أصول أرمنيّة، أصول بالكاد أستذكرها لولا مازاتها الطيّبة، كيف لي وﻷوّل مرّة في حياتي أن ألبّي دعوة كهذه، أن أتطلّع وأنظر شرقًا باتجاه بيروت، أن أكتب عنها ولها على أنغام موسيقى أتتني منها وذهبت بي إلى غير رجعة...

كم أتمنّى لو باستطاعتي الكتابة بكلمات عذبة ورقيقة عن هذا البلد! لكنّ وللأسف، إن هذا الشرق حيث تقبع اﻷرزة اللبنانية مفتّت بالكامل، والأفراد الذين تسبّبوا بمعالم هذا الدمار، ها هم يتناحرون لإيجاد المذنب بينهم، ولتبيّن وجهة المسار اﻵن، ولمعرفة كيفيّة البقاء على قيد الحياة. إتفاقيات سايكس-بيكو، ذكرى مئويّة لبنان الكبير، سنة الانفجار، المسؤوليّة دامغة ومكتملة.  بعد بضعة أسابيع على بَدْء الانهيار الاقتصادي، تتمظهر المسؤولية بفراغ آخر وعلى أعظم. تتجلّى تعقيدات الوضع اللبناني في تشابك الصيغ المختلفة للأزمة وللحلول، في الفساد المستشري، في حركيّة الأجساد باتجاه واحد: السقوط.

والطريق مقطوع حتمًا. أينما كان.

وباشرت الرحلة تحت هذا العنوان، كفعل سياسي، والقبضة مشدودة، تجمعني مع كتّاب وقرّاء هذه المطبوعة لمعالجة الثيمة: "داد-آند". لا منفذ. لا مخرج. خيار حاسم في هذه التراجيديا التي نشهد عليها. إشارة قاتلة تلي الولادة، ثيمة العدد السابق من رحلة.

المسافة البعيدة التي تفصلني عن بيروت تقرّبني أكثر من إحساسي التامّ، هنا أيضًا، بانسداد الطريق. عالق أنا ما بين الحاجة للكتابة وصعوبة هذه المهمّة، أراقب أعالي الحيطان من حولي وأتأمّل في طريقي المقطوع. ولدت ابنتي في يوم من منتصف شهر نيسان، ومذاك اليوم وأنا محاصر باللامنفذ. لم أعد معنيّا بأيّ شيء آخر غير وجودها. زد على ذلك، جسدي بكليّته اﻵن لا ينفعل ولا يتحرّك إلاّ لكيانها. يجتاحني الخوف. أخاف على هشاشتها ورهافتها وضعفها كجنس في هذا العالم اﻷبويّ حيث المرأة معذّبة متألّمة لحالها لوحدها بين حالتها وجسدها. شاهد أنا على هذا التغيير الهيكليّ الناتج عن الصراع القائم للمطالبة بحقوق المساواة بين الرجل والمرأة، أعيش معها (ومن خلالها) هذا المنعطف لمجتمعاتنا، صوب اتجاهات وعلائق مغايرة للسائد، تفاعلات مجتمعيّة جديدة تسكننا لنحياها. إلاّ أنّ "الشرّ" هنا، رابض في مكان ما، خلف رأس هذا أو ذاك الرجل، المتمتّع بثقافته الذكوريّة، وعبر منظور القوانين الاجتماعية حيث يحلو ويطيب الاستغلال لـ"جنسنة" الجسد اﻷنثوي. وأمّا ردّ الحكّام فيكون دائمًا ولا عجب بالمواظبة على  حجب أجساد بناتنا عوض تربية بنينا. وعليه، أراني اﻵن أمام طريقي المسدود التي تحتضن أبوّتي الحديثة بالخوف وبالقلق، فأفكّر بـ "سيمون فايل" وبكلماتها عن صيرورة المرأة، وأعقد الآمال على خواطر من هذا النوع وعلى تطوّر للعقليّة، ولو أمام هذا الطريق المسدود، كي نسير صوب الحقّ. ﻷجلها. ﻷجلهنّ. ﻷجلنا جميعًا.

الطريق مقطوع، أجل. الدلالة اللغوية تشير إلى استحالة اللف والدوران للعودة. لا رجعة إلى الوراء. التحرّك الوحيد الممكن هو باتجاه النهاية، النهاية القريبة. ماثلة هي أمامنا. حائط، هاوية. تنتصب تحت أعيننا حقيقيًا. ستقاضينا على كيفية سلوكنا الطريق، كوننا وكجنس بشريّ، هي الطريق الوحيد الذي يجمعنا كلنا، فلا فرق بين أخيار وأشرار بعد اﻵن. جلاد أو ضحيّة، لا همّ، لا فرق إن كانت المسؤولية عامّة أو خاصة، الطريق المقطوع يحوط بنا ونحتاط به.   

«Comment l’homme occidental s’est-il lié à l’obligation de manifester en vérité ce qu’il est lui-même ?» (1)

"كيف توصّل الإنسان الغربي إلى الارتباط بواجب إظهار ما هو عليه كحقيقة؟"

 والطريق ما زال مقطوعًا، أجل: بما أن مصير العالم المعاصر قد قرّره، ويا للأسف، العالم الغربي من خلال تركيب اﻷحداث وبنيانها على المدى القصير أو البعيد، (2) للهيمنة على اﻷجساد بواسطة اﻷنظمة السياسيّة والاقتصادية والعقائد الدينية، للاستيلاء على النسيج الاجتماعي وتكبيله وتقييده، ولتمتين مفهوم العقاب للاستفراد بحق تقرير الحياة أو الموت إلخ…  وبهذه الطريقة نستحق جميعنا على اختلافنا مكاننا اﻷوحد أمام الطريق المقطوع، ﻷننا عضويا، في هذا المجتمع المعولم، المصنوع على الشاكلة الغربية، إمّا نكون "كائنات حاكمة أو محكومة"  أو لا نكون. الشهيد بجانب القاتل، المقهور بلصق القاهر.

قديمًا ومن عام 1492 إلى اﻵن، الطريق واحد، طريق يربطني بإنسان ما في بنين، أو بشخص من أقليات البيغمي، أو بآخر من الريدناك في تكساس، أو بقارئ لمجلة رحلة…

لا بدّ من الاعتراف والتسليم بأننا جميعنا اﻵن، أعضاء في مجتمع مهشّم من الرأسمالية، من السلطة والدين، نتشارك جميعنا، لئن رضينا أم لا، هذا المصير لهكذا مسار، أمّا الوجهة فوحيدة ومعروفة وعلينا بتحمّل ما سنلقاه من نهاية.

انقطاع الطريق وانسداد اﻷفق، هي حالة عامّة عالميّة، ملازمة لطبيعة النظام وحركيّته المسبّبة بها على السكت، لذا وإن كان هناك من فعل أو من ردّ فعل ممكن، لن يكون صائبا إلا جماعيًا، كما أنّه وفي آن واحد، سيكون سليمًا بطروحاته التغييرية والتجديدية، ومريضًا بحاملي رايات هذا التغيير والتجديد. وسيتوجّب علينا حينها، أي بعد الوصول إلى قعر الهاوية، أن نتخطّى الحدث وعناصر هيكليّته، لنستجمع قوانا والتزامنا بكل قضايانا المحقّة، فنعيد خلق هذا النسيج الاجتماعي الذي برهن عن تجربة وفي أكثر من مكان، كما حصل في الأرجنتين أو في اليونان أو في بلدان أخرى مستعمرة، أنّ العلاقات الإنسانية وحدها هي الكفيلة بتخطّي وتقطيع أوصال روابط اﻷنظمة الدمويّة.

 

1.     M. Foucault, Le gouvernement des vivants, Cours au Collège de France (1979-1980), éd. établie sous la direction de F. Ewald et A. Fontana, par Michel Senellart, Paris, EHESS/ Gallimard / Seuil, coll. Hautes Études, 2012, cours du 6 févr. 1980, p. 99

2.     Fernand Braudel, La Méditerranée et le Monde méditerranéen à l'époque de Philippe II, Armand Colin, Paris,1949.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button