"ولفَتَ نظره أن السماء التي تزعل الجميع واحدة سواءً أكان ذلك في أوراسيا أو حتى هنا في أوقيانيا، كما أن الناس الذين تظلّلهم يتشابهون إلى حد كبير أينما كانوا، ففي جميع أنحاء العالم يعيش ملايين الأشخاص على هذا المنوال، حيث يجهل بعضهم بوجود بعض، وتفصل بينهم جدران من الكراهية والأكاذيب، ومع ذلك فهم متماثلون. أناس لم يتعلموا أبدًا كيف يفكّرون ولكنهم يخزّنون في قلوبهم وبطونهم وعضلاتهم القدرة التي يمكن في يوم من الأيام أن تقلب نظام العالم.

قال لنفسه متسائلًا: فإذا كان هناك أمل فإنه يكمن في العامة!"1

يستنتج وينستون2، الموظف الحزبي، المنتمي إلى النخبة، أن لا خلاص لأمّته إلا بإيقاظ العامة من سباتهم الاجتماعي العميق. العامة في رواية أورويل هم سكان الأحياء الفقيرة على هامش الحياة، المشغولون بغسل ثيابهم وصراخ أطفالهم وتلبية حاجات بطونهم. هم الذين لا يتساءلون عمّا يجري في الوزارات المغلقة، وكيف تُكتب الصحف، ولماذا يقرؤون ما يقرؤون ويسمعون ما يسمعون، فهم "أناس لم يتعلموا أبداً كيف يفكّرون".أو بالأحرى هم لم يتعلّموا كيف يفكّرون خارج الدوائر المسموحة لهم، ولم يستطيعوا أن يشبّوا عن الأطواق المحكمة حول رقابهم والتي بفضلها تسيّرهم النخبة الحاكمة على هواها بما يخدم حضورها وسطوتها لمدًى أطول. ففي الرواية تبقى العامة مشغولة بتأمين متطلبات الحياة الأساسية عن محاسبة السلطة أو حتى التساؤل عمّا يحصل حولها في العالم، فهي محاصرة خارجيًّا لارتفاع خطر الحرب الدائم الذي يهدد وجودها كما يتم إعلامها في كل نشرة أخبار أو مقال في جريدة، ومحاصرة معيشيًّا لما على السلطة من اقتصادٍ في رفاه عيش مواطنيها مقابل أن تكون على أتمّ الجهوزية للحرب المحتملة الدائمة. "وبمثل هذه السياسات، يغدو الجو الاجتماعي أشبه بجو مدينة ضرب عليها حصار جعل حيازة قطعة من لحم الخيل بمثابة الخط الفاصل بين الثراء والفقر. وفي الوقت نفسه، فإن إدراك المرء كونه في حالة حرب، مع الأخطار التي تتهدده، يجعل من تسليم كل السلطات لحفنة صغيرة من الناس أمرًا طبيعيًا وشرطًا محتومًا للبقاء على قيد الحياة"3. ويجعل من تقلّص عائد الجهد الذي يبذله المرء في عمله أمرًا لا مفرّ من قبوله. ويجعل من الإنسان آلةً عاملةً على مدار الساعة فلا وقت للتفكير ببنبية المجتمع وطرق تسييره، بل من الحكمة "تسليم خبزه للخباز ولو أكل نصفه" كي لا يبقى بلا خبزٍ لعشاء الليلة.

ومع ذلك فإن وينستون الشاهد على الحقيقة، على داخل الداخل السياسي وعلى كل ما هو خارجٌ عنه وخاضعٌ له، يرى أن الأمل كلّ الأمل يكمن في العامة. ومع أنه لم يتمكن قط من إثبات نظريته وتطبيق رؤيته، فإننا نستطيع تخيّل ما كان يمكن أن يحدث لو أن هؤلاء الناس أدركوا قوة عضلاتهم وبالأخص تلك التي يحملونها في رؤوسهم.

من حيث المبدأ عالمنا يتشابه إلى حد كبير مع عالم رواية "1984" الصادرة في 1949: الحقيقة تبتلعها زوايا التاريخ، والإنسان يشكّ في سويّة تفكيره أو قدرته عليه أصلًا. الحواجز الموضوعة بين فرد وآخر ترتفع لتصل إلى حدّ أتفه الأمور، فكأن الواحد منا يمشي بين جدران أربعة ضيقة، لا يرى وجهته ولا يعلم أين يتجه، ولكنه في أغلب الأحيان يظن أنه يعلم وأن لا أحد يجاريه في علمه. ووينستون الذي كاد يجنّ عندما كان يفكر في واقع عالمه، ستصيبه خيبة أمل كبيرة لو عاش معنا اليوم، فالكل يعلم أنه قادر وأن في عضلاته القوة الكافية لتغيير وجه العالم إذا ما اتحدت مع عضلات أقرانه. والكل يفكّر، فالمشكلة الأساسية لم تعد هنا، إنما كيف وبماذا يفكر كلّ منا. وإذا ما أراد وينستون أن يقوم بجولة سريعة على عالمنا وعامّته فسيجد أن النخبة القليلة ما زالت هي الحاكمة، مع اعتقاد الأغلبية بأنهم أصبحوا نخبة مؤثّرة. والفخ هو في الوهم المضلّل، كأن يعتقد المرء أنه إذا أثار موضوعًا ما على صفحة تواصلٍ اجتماعي وأخذ يبحث ويناقش فيه ويرجّح صحته، ستأتي هيئة الأمم المتحدة رأسًا وتباشر بإصلاح المسألة. أو أن يستنج أن الكلام لا ينفع شيئًا وأنّ ما عليه إلا جمع المال وتكديس الثروة، لأن الذي بيده القرش يحكم العالم، فيدخل في دوامة تكوين رأس المال حتى يدوخ فلا يعود يعلم لماذا دخلها من الأساس.

وقد يكتشف ونستون أن الفئة المهمشة التي لا همَّ لها سوى أن تبقى فوق خط الفقر قد تطوّر همها إلى أن تبقي رأسها فوق "خط البشر" لأنه "ومن ضمن الهدر العام - الذي يصيب مجتمعاتنا - يأتي نهب القلة للثروات والخيرات وحرمان الغالبية منها ودفعها إلى المستوى النباتي (توفير رمق العيش من الوجود). وهنا يتجلّى الفقر ليس كحالة اقتصادية أو حرمان مادي، بل كظرف يدفع بالجماعة وأفرادها الذين يعيشون دون خط الفقر إلى "ما دون خط البشر" وجوديًّا وكيانيًّا. ويدخل ضمن ما دون خط البشر هذا: الأسْر، التعذيب، التهجير، الحصار، التصفيات الجماعية... تؤدي هذه الحالة في درجاتها القصوى إلى هدر الكيان وسحب كل قيمة منه - انعدام الاعتراف بإنسانية الإنسان."4 وذلك لاضطرارها إلى الحفاظ على قدرتها على شراء قُوتها بيدها بدلًا من تسوّله. وفي سبيل ذلك، لا تستطيع أن ترى من يتكلم باسمها ومن يأخذ القرارات عنها، فهي في الغالب تقف في آخر صف من صفوف الحشود وحتى أنها تصفّق متأخرة قليلًا عن الجمع، لأنها هي تلك الفئة التي لا يُنتظر منها شيءٌ حقًا.

وقد يُفاجأ وينستون بعدد الكتب والمصادر العلمية والبحثية المنتشرة للجميع إن هم قرروا أن يبحثوا قليلًا فقط، وفي المقابل قد يهوله كيف أن لكل مجموعة من العامّة كتب "غولدشتاين" الخاصة بها فلا ترفع رأسها عنها معتقدة بأن لا خلاص لها إلا بها.

إن العامّة التي يبحث عنها صديقنا موجودة بكثرة ولكنها مبعثرة، فلكل رؤيته الخاصة وطريقة عمله ومن الصعب أن يؤمن الإنسان بعمل إنسان آخر ومن الصعب جدًّا أن يتّخذ مبدأ الأخوية في عملٍ ما، سياسيًا كان أم اجتماعيًا أم مهنيًا. ومتى دخل الترتيب الهرمي أي مجال، تفرّقت العامّة بين نخبة بيدها القرار وبين أقزام معامل سانتا كلوز.

لقد قفز العالم قفزة ضخمة يا عزيزي وينستون. وانقسمت الحشود بين إلكترونية مثقّفة تقف على حافة المعرفة، والمعرفة قوّة، ولكنها لا تقدم عليها بكامل عضلات رأسها بل تنتقي منها ما يُشبع حاجتها للظهور والمبارزة، وبين حشود أخرى لا حول لها ولا قوة إلاّ ما تستمده من شرعية ولاءاتها السياسية والاجتماعية، أكانت على صواب أم على خطأ، وحشود ثالثة نفت نفسها إلى ريف الحياة العامة، تمشي جنب الحائط وتطلب من ربها السترة. لكنك إذا أمعنتَ النظر فستجد مرآة لك في كل فئة من تلك الفئات: أشخاص لم يقبلوا التصنيف المفروض عليهم واستطاعوا كسر القيود الفكرية التي كانوا يظنونها حدود العالم، رفعوا الحجر عن عقولهم وأطلقوا لها العنان، متجرّئين على الوجود مستعدّين لتحمّل شتّى أنواع المنافي، "ومن يتجرّأ على الوجود يكون أمام احتمال أن يبني لذاته منفى في الخارج، أو منفى داخل ذاته".5


1 من رواية 1984 للكاتب جورج أورويل.

2 وينستون سميث هو الشخصية الرئيسة في رواية 1984.

3 من كتاب "غولدشتاين" المعارض الأكبر للحزب الحاكم في رواية 1984.

4 شرح "ما دون خط البشر" من كتاب "الإنسان المهدور" - د. مصطفى حجازي.

5 أدونيس، 2003.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button