"تلك هي فلسفة الشهادة، الشهادة استظهارًا على المجاهدة، فالشهادة هي إظهار للحقائق التي يسعون لإخفائها وينكرونها. والشهيد بموته يكشف الستار عن زيف العدو، الشهادة دعوة إلى جميع الأجيال وفي كلّ العصور تقول للمسلم إن استطعت فاقتل (الجهاد) وإن عجزت عن ذلك فمت (الشهادة). والشهيد بموته يؤدي رسالة، فالمجاهد يقتل عدوّه، والشهيد يؤدي رسالة طلاب الحق في عصر العجز."
يمكن تعريف العشق بأنه ولادةٌ جديدة لحياةٍ نراها بعيون المحبوب، وهو مجازفةٌ تصل إلى الموت بل وتتحدّاه. يولد هذا الشعور الجارف تجاه شخصٍ أو مكانٍ أو غيرهما لأسبابٍ عدّة، بعضها يتجاوز قدرتي على الوصف أو الفهم، لكنّي أدرك بعضها، كتراكم الذكريات وارتباط المعشوق في ذاكرة العاشق بمشاعر لطيفة أو ضرورية لاستقراره النفسي، كالأمان، والقوة، والعزوة، والحماية، والرعاية… إضافةً إلى تفاعل عقل العاشق مع فكر ومنطق المعشوق، مما يولّد تعلّقًا نابعًا من احترامٍ وعطشٍ لمزيدٍ من المسامرة والأحاديث التي تشعل الفكر وتحفّزه على التأمّل والتدبّر…
في 23 شباط 2025، لم يكن هناك تفسيرٌ لكلّ تلك الوجوه الكثيرة سوى العشق، مهما كان سببه. سار الناس ليلًا، وانتظروا في البرد حتى طلوع الصبح لحضور مراسم التشييع، في وقتٍ مستقطعٍ من أعمارهم، بانتظار لحظة الحقيقة واللّقاء. حقيقة هذا المسار، واللقاء مع الحقيقة. لحظةٌ سبقها مسار طويل ومرتبك من الخوف، يمتدّ بين الصمت وصفّارات سيارات الإسعاف حينًا، وأصوات جدارات الصوت والقصف حينًا آخر، وبين الشرود في جمود البلاد ومجهول المستقبل أحيانًا أخرى.
مشيت باتجاه المدينة الرياضية وفي داخلي ينبض صدى صوته:" أتعطون لنا الأمان وشعب فلسطين لا أمان له، أطفال فلسطين لا أمان لهم، مجاهدو فلسطين لا أمان لهم، القدس لا أمان لها، المسجد الأقصى لا أمان له، أتعطوننا الأمان وهؤلاء المظلومون المضطهدون لا أمان لهم، اسمع أيها المستكبر، لعنك الله ولعن أمانك."
كان هذا الموقف هو الدافع الأوّل لحضوري في ذلك اليوم المهيب، القرار الذي تمسّك به السيّد حتى يوم استشهاده: مساندة غزّة في حربها وعدم تركها وحيدة. موقفٌ لم يجرؤ على تبنّيه أصحاب النفوذ في هذا العالم.
هنا أيضًا وقت مستقطع، انتظرتُ أن تتغيّر المواقف، سذاجة بنكهة الأمل، أن تقلب الشعوب الطاولة على من تخاذل، انتظرت أن يحدث شيء ما، أن يتوقّف عدّاد الموت، أن يُمسح على رأس طفلٍ في غزّة ويُقال له: "هذا ليس إلّا وقتًا مستقطعًا، ولديك متّسع من الوقت لتكبر." بقيتُ أنتظر.
وفي كل ذلك الانتظار، كان الزمن يُقتطع من عمري: دقائق لمشاهدة الموت خلف شاشات الهواتف، ثواني من الخوف من خبرٍ عاجل غير مؤكّد، ساعات النزوح الكبير في ليلةٍ لا تنتهي، الصمت الأبديّ الجارف بعد الانفجار الكبير الذي مزّق آخر ما تبقّى من أماننا. ثم وقت مستقطع آخر، في عناوين الأخبار والمقالات وفي تصريحات السياسيين. هنا يتمدد الوقت بكل ثقله على الأشياء كلّها، على قلوب الخائفين وقلوب العاشقين، ويحفر في وجوه المنتظرين أملًا ورعبًا واحتمالات ترقص على أوتار أعصابٍ متلفة، تعد بالطمأنينة مرّة وبالركام الدموي مرّات أخرى، وينحت في تفاصيلها معالم الظلم، وآثار النضال الأزلي ضدّه.
نحن في ملعبٍ يحكمه الوقت إذًا، خطٌّ زمنيٌّ يشقّ الوجوه كما الوجود في اتجاهٍ واحد، سهمٌ من فولاذٍ ونار… وهذه معركتنا الأساس.
"- مع المقاومة أكثر من أي وقت مضى…
- الوقت في مصلحة المقاومة…
- زوال إسرائيل مسألة وقت…
- المقاومة هي التي تقرر الوقت وآلية الرد على خروقات الاحتلال…
- المقاومة في هذه الأيام هي أشد قوة من أي وقت مضى …"
"لم يكن هنالك وقتٌ (مستقطعٌ) للعاطفة تحت القصف"، يقول أبي، الذي اختار البقاء في بيته في الجنوب طوال فترة الحرب المفتوحة. أمّا وقد انتهت الحرب بشكلها الذي غالبًا يجذب التغطيات الإعلامية، فلا يتحدّث عنها إلّا وقد تجمّع قهر الوقت كلّه في غصّة صوته وحمرة عينيه.
ولكن الخوف، الذي يتمدّد حاله حال الوقت، ينذر بجلاء الحقيقة. هذا الوضوح الذي كان يزداد بمرور الزمن، شكّل دافعًا قويًّا للثبات على الحب، على الحق، على الرحمة وعلى البأس. أنا، ابنة الجنوب وابنة المقاومة بمعناها الصلب الجامع، وربيبة الوقت المتأرجح بين المواجهة والهدوء جرّاء معادلة حرّرَت وحمت ثم ردعت لفترة دامت ثمانية عشر عامًا ببركة جهود سيّد الجنوب وأبنائه، بعد أن وظّفت الوقت وما فيه لصالحها… أنا، ابنة الجنوب لم آت إلى الأمين في تشييعه مكسورة. أحزن على الفقد وأتقبّل مسار التاريخ. لكنني، اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى، أزداد إرادةً للمضيّ في فهم النضال ضدّ الظلم، والاحتلال، والاستعمار— نضال أبناء الأرض، ونضوج فكرتهم ووسائلهم مع الزمن… وضدّ الزمن.
يشرح الدكتور خالد عودة الله أنّ "مركز الثقل في المشروع الإستيطاني - والذي إذا ضُرب تنهار معه بقية أركان مشروعه ويسقط بالتالي - هو شعوره بوجود مستقبل له على هذه الأرض، وكلّ حربٍ معه هي حرب على فكرة المستقبل وإمكانية الوجود فيه." فهي حرب على الوقت في أوّلها وآخرها: من يكسبه في صفّه، من يجيد فهم لعبته، من يستعمله لخدمة أهدافه، من يخلق أوقاتًا مستقطعة لبناء القوة ومراكمة النقاط، من يرى نفسه وشعبه أولى به… وما المقاومة في جوهرها إلّا عملية استغلالٍ للوقت لصالحها، لخلق طرقٍ جديدةٍ للوجود، لطرح احتمالات، تتحوّل إلى خطط، وأفعال، في سبيل تحقيق أهدافها. هكذا أستنتج. وبالتالي، فالمقاومة دعوةٌ لاستثمار الوقت، لرفض أن يداهمنا بسيفه القاطع، لأن نقتصّ منه ثمن كلّ ثانيةٍ استُثمِرَت ضدّنا، كلّ ثانيةٍ نسينا فيها معنى أن نكون في هذه البقعة من الأرض.
أعود إلى ذلك اليوم، إلى كلّ تلك الوجوه التي حملها الشوق إلى لقاءٍ أخير. أعود وأمعن النظر في الصور التي التقطتها محاولةً تسجيل ما أمكن من تفاصيل في ذاكرتي، صورٌ لأناس يحملون صور شهدائهم ولكل شهيد منهم حكايته مع الزمن، لكلٍّ منهم وقته الخاص الذي أفناه في الكشف عن هشاشة العدوّ وزيفه، أعود إلى لحظة مرور الطائرات الحربية فوق رؤوسنا، إلى الدم الذي يغلي في عروقي، إلى السيناريوهات المتعددة التي تخيّلتها في ثوانٍ، وإلى ثبات الأصوات الهادرة معلنة، الآن وهنا، "هيهات منّا الذلة."