- عام 1932 وُلد رجل اسمه هيرمان هيرتزبرغر في مدينة امستردام. عام 1958 بدأ هيرمان دراسته في مجال الهندسة المعمارية. عام 1970 بدأ هيرمان تدريس الهندسة المعمارية في عدة جامعات. عام 2016 قابلت هيرمان في أمستردام في مكتبه المتواضع. عام 2016 قال التالي: "على الأطفال أن يلعبوا في الشارع من أجل اكتشاف العالم واكتشاف الخير والشرّ واكتشاف الناس الخيّرة والناس الأشرار. أخشى أن يكون انعدام هذه الحاجة أحد اهم مشاكل التحضّر والتنظيم المدني في يومنا هذا. أجل، يمكنك الوصول إلى السماء من خلال ناطحات السماء، ولكن ماذا يعني ذلك؟" –

الدنوّ المصطنع وآلات الحداثة 

هناك دنوّ من نوع آخر. دنوّ مفروض ومشروط. نحن المسيّرين بكل شيء، نجد أنفسنا مسيّرين ايضا بملاصقة رجل أو إمراة أو طفل أو كلب على متن المترو أو داخل "علبة" المصعد. نتنقّل نحن، مجموعة أشخاص أو أشياء نتنقّل أفقيًا أو عاموديًا مصفوفين و متراصفين ومتلاصقين. أحيانًا، نضحك ضحكة غريبة للشخص المحاذي. هذه الضحكة الغربية وليدة هذه المجاوَرة المصطنعة أصلا. أحيانا يعمّ جوّ من الغرابة المدهشة. ندرك الغرابة ونحسّها. ندرك أن الآخر أمامنا يحسّها أيضا. لا ننطق ولا هم ينطقون. أحيانا نشعر بأننا بضائع او أشخاص، لا فرق. 

كتب ماركو فيتروفيو، والذي يُعتقد أنه صمم أول رسم للمصعد عام 236 قبل الميلاد، عن الترتيب والتماثل المعماري والجمال في معظم أعماله.. "الجمال". يأتي الجمال في أشكال عدّة. والأرجح أن أجمل أنواع الجمال يأتي في شكل صُدفة أو لحظة أو صدفة/لحظة معًا. بعد أعوام طويلة عرّف الفنان السوريالي سلفادور دالي في مذكّراته عن نظرته إلى الشكل والجمال. الجمال حرية، والحرية لا شكل لها، والزهرة تنمو في سجن. سجن التكرار والاشكال المتّفق عليها سابقًا ولاحقًا. هكذا هو المصعد/العلبة الذي يخلو من أشكال الجمال والذي صُمّم كأداة للتلاصق الاجتماعي التي أمست وبسهولة أداة للتّباعد الإجتماعي، كما عبّر هيرمان هيرتزبرغر. أخذ المصعد يتكاثر كالغطر في الغابات عند منتصف القرن التاسع عشر. اكتسح المدن أفقيّا فكبرت المدن عموديّا. نشأت ناطحات السحاب مع نشوء المصعد وباتت المساحات الأفقية الارضية تتقلّص خجولة امام عظمة الآلة الحديثة.  نشأت عندها العمارة العمودية،  وبات لها مؤيدون معماريون و باحثون ومستخدمون معجبون بها أشد إعجاب. ومثلما تكاثر المصعد في المدن، تكاثرت المفاهيم المرتبطة بالمصعد، وأصبحت لها تصنيفات وأبعاد فلسفية. ومن أهم تلك المفاهيم، المجتمع الرأسي او العمودي الذي يلخّص مجموعة ناس في المدينة تعيش في علب أنيقة فوق بعضها. لهذا المجتمع، طبعا، تراتبية مريبة. قبل البدء بتشريح كيفية تسبّبه بتباعد إجتماعي فظيع لمجتمع بعيد عن مدينته أصلا، علينا تفكيك الاسم/المفهوم. "المجتمع الرأسي" يقضي بأن يقف المجتمع على رجلين كالإنسان وأن يحمل الرأس على الكتفين. للرجلين طابق سفليّ او أرضي لا يتيح للشمس او الهواء ان يلمسا المنزل. وللبطن طوابق وسطى ضحيّة الاحتمالات، كاحتمال أن يبني احدهم بناية ملاصقة في الجوار فيحبس عنهم الهواء والشمس والرؤية. وللرأس الطوابق العالية، المشرفة على المدينة الحزينة. لكن، لا يهم. الحزن لا يُرى من السحاب، الحزن لا يُحَس من بعيد. الرأس، أي المنطق والعقل والحكمة يترأس المصعد. والرأس عند البعض نقيض الشعور والحدس، والمجتمعات الحزينة لا يحييها العقل دائمًا. يتلاقى ساكنو المبنى في المصعد. في علبة حجمها، كحدّ اقصى 4 أمتار مربعة. دنوّ فظيع وبُعد لا حدود له. صباح الخير عابرة وابتسامة مصطنعة كحد اقصى في مصعد خشبي يبرق و لا يتعب.

الانطواء الفطري ودنوّ الذات من الذات

حدّثنا هايدغر عن الموضوعية الكامنة في العمل الفنّي وعن حقيقة الشيء الكامنة في جوهره والتي يمكن أن تكون منفصلة تماما عن العلاقة الذاتية الكامنة مع الشيء. هناك موضوعية كامنة في المصعد تقتضي الهروب. الهروب إلى الذات كوننا مخيّرون أن نبقى داخل العلبة. نخاف الاخر المجبورين فيه ونخاف العلب الضيقة ونخاف من ان تُسلب إنسانيتنا وأن نرى أنفسنا بضائع تتوزّع على الطوابق. تمسي آلات التلاصق/التباعد الإجتماعي آلات نبش الذات والماضي والمستقبل. الدنوّ المصطنع يولّد انطوائية فطريّة. هو الهروب من الخطر والانزعاج المفرط وعدم وجود مساحة آمنة أخيرة إلا ضمن الجمجمة. هناك هروب فطريّ من نوع آخر. تركض أمامي طفلة عمرها 6 سنوات نحو المصعد حاملة كرسيّا بلاستيكيًا صغيرًا. تريد ان تركب المصعد مع كرسيها كي تجلس عليه داخل "العلبة". وحدها الطفلة تلك تعرف كيفية الهروب من خطر التلاصق الاجتماعي: أن تتحدى أصل الشيء وصانعه الأول من خلال تغيير الوظيفة. يمسي المصعد غرفة جلوسها، وإن أتى طفل آخر مع كرسيّ آخر تحوّل المصعد مساحة نقاش او لعب. كان على بيرتراند راسل، الفيلسوف وعالم المنطق البريطاني، ان يناقش تلك الطفلة كي يروّض قلقه من المصعد. عندما علق راسل في المصعد خرج خائفًا قائلًا: "كيف أخرج من هذا الفخ الملعون! لقد علقت للأبد صعودًا وهبوطًا و يبدو أن هذا المصعد خارج عن سيطرتي". شبه راسل المصعد ب"الفخ الملعون" ليصفه. والفخ هو الخدعة والمصيدة للإيقاع بالحيوانات او الأشخاص، واللعنة هي الشر الذي يلحق بنا، ويكون فيه عادة شيء من السحر او النفس الألهية. من ناحية أخرى، شكّلت الطفلة تحدٍّ للمصعد، فهي تلهو بالمصعد وتسخر منه غير آبهة إلا بالمزاح.  

الانطواء المدينيّ وغابات المصاعد

يقف قصر عكر مدخلًا لزقاق البلاط. يقف متّكئًا على واجهته الشمالية التي نجت من الهدم الممنهج. يقف القصر القديم أمام برج المرّ مرحّبًا بزوّار المنطقة. أمام القصر مباشرة إعلان كبير يبشّر بالآتي: "المجتمع  الرأسي في صدد البناء". برج كبير زجاجيّ سوف يكبر ويخنق القصر. وسوف يمسي واجهة جديدة لزقاق البلاط، ذاكرة وحاضر جزء أساسي من المدينة. وسوف يحتضن 4 مصاعد كبيرة وجميلة وبرّاقة. وسوف يلعب أولاد هذا المجتمع في المصعد، وسيمسي سكّان المبنى جيران أنفسهم لأن علبة المصعد مكان لقائهم الوحيد. وسوف يرحب بعضهم ببعض من وقت لآخر. وسوف يبستمون ربّما، او يسكتون ربّما. وإذا رفض أحدهم السلام جرّاء الغرابة المفروضة في المصعد، لن يعود أحدهم يلقي التحية على الآخر. و سوف يمسي المجتمع الرأسي/العمودي مجتمعًا كما يريده نظامنا تمامًا: مشلّعًا بائسًا معتقدًا أن السعادة الابدية كامنة في الحداثة. نعم، يمكننا الوصول إلى السماء. لكن صدقًا، ماذا يعني ذلك؟

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button