أحاول أن أُبقي طريقتي رسمية في التعامل مع الله، بليدة وباردة، مثلما يفعل الآخرون أثناء قضاء معاملاتهم في الدوائر الحكومية. وما أكثر أوجه الشبه بين الأمرين إذ أنك في جميع الأحوال سوف تُصفع بالصمت الرخامي اللانهائي وتخرج من ذلك المكتب الصغير من دون الحصول على أدنى حد من النفع والمساعدة. ياه، هكذا تحدث الأمور.

ومن هذا المنطلق، فإنني أحرص دائمًا على إبقاء صلواتي في قالب معين، روتينية، آلية، في مواعيد محددة مثل السداد الشهري لفواتير الكهرباء أو الهاتف، أسدد رسوم إيماني اليومي بصلوات أهمسها سرًا، أسدد ديونًا أجهلها لله، وأنتظر إيصالات بالمغفرة.

أحب الله، أنا لست كافرةً أو معترضةً أو هازئةً، إنني متعلقةً بالله رغم كل شيء، وأذوب في هذا اليقين الصرف مثل سكر مذاب في كأس من الشاي، أنا مهزوزة دائمًا لكن إيماني مغروس بين أضلاعي مثل فأس.

لا أنوي تفسير الأمر هنا بالطبع، الإيمان لا يُفسر، لا يُفكك، يؤخذ دفعة واحدة مثل حبة أسبرين، من دون محاولة التعرّف على مكوناته، فالغاية الوحيدة منه هي قتل الألم، على الرغم من أنني أميل في بعض الأحيان إلى زيادة جرعتي من هذا الإيمان، ساخطةً من وجعي الذي لا يتبدد، ولم أفكر ولو للحظة واحدة قبل الآن في أنني لست موجوعةً لأنني مؤمنة أقل، بل على العكس. فيا لسذاجتي إذ ظننت، في عمري المبكر، أن الإيمان قد يكون نوعاً من المهدئات، مثل كوب بابونج ساخن أو نعاس بطيء يتسلل نحو يقظتك المسننة ويمسد قلقك الناتئ حتى يستوي بقعر روحك وينام. يا لسذاجتي الآن، وأنا أدرك كم كنت مخطئةً وحالمةً ويائسةً، وأن إيماني محض رنين معدنيّ لانهائي ناتج عن مطرقة ضخمة تنخر رأسي وقلبي المحتقن بصلوات لم أجد الفرصة لأتلوها بعد.

الإيمان، بالنسبة لي على الأقل، ليس الوجهة، ليس الغاية، ليس البيت، أو الطريق حتى، ليس مكانًا أستريح فيه، بل هو فعل المشي، أثنلء رحلة طويلة يقطعها المؤمن نحو المجهول. الإيمان هو فعل المشي هذا، الذي يدفعك للّهاث خلف اللا شيء، أو كل شيء، القدمان اللتان تقودانك نحو ما تجهله. الإيمان هو المحرّك الأول للركض، للذهاب، بحثاً عن ماذا؟ عن الفردوس الضائع ربما، عن الشجرة الإلهية التي قُطع منها في بداية المطاف. المؤمن الذي تحكّه أطرافه لأنها مبتورة من شيء ما، من أصلٍ ما، بات اليوم بعيدًا، مهدورًا، ومستحيلًا.

أفهم هذا، لأنني مؤمنة أيضاً، وتعصرني رغبة الركض نحو نورٍ كلما اقتربت منه صار أبعد أو تلاشى. أفهم هذا لأنني أريد أن أعود إلى الله في أقرب وقت ممكن، في مشهد كونيّ من لمّ الشمل، حتى أطرح وأخيرًا هذا الإيمان عن ظهري، هذا العبء اللامرئي الذي ينهش روحي ويوهن عظامي ويأكلني، يأكلني مثل الصدأ، ولا أحد يشعر به.

أتذكر الآن نفسي قبل أعوام، في سن السابعة عشر، السنّ الحافة، حين جلست إلى جانب صديقتي، داخل تلك الغرفة الدراسية المربعة التي تكتظ بالأرواح الجامحة والطاولات البلاستيكية، وأفضيتُ لها بالسرّ الذي يعذبني، همسًا عند الأذن البيضاء التي تنام مغمورة مثل يمامة تحت شعرها القصير البندقي، حين ٱعترفت لها، ولنفسي بصوتٍ عال، لأول مرة، وقلت في وجل: "أريد أن أفقد إيماني. لقد تعبت" 

ثم انهمكتُ بعدها في تقيؤ روحي المنهكة عندها، أخبرها بكل الطرق التي سلكتها والكتب التي قرأتها والرحلات الداخلية المميتة التي خضتها وحيدة وعارية ومتيقظة لأخدش هذا الإيمان الصلب مثل صخرة ضخمة، بلا فائدة، وأنشج لأنه لا يوجد بروتوكولٌ معينٌ يتقيّد به المرء لكي يفقد إيمانه بالشيء أو يكتسبه.

لا أحد يفهم. لقد كنت فتاة صغيرة بإيمان هائل، يفوق كتلة جسمها عشرات المرات. قوة خارقة خارج نطاق قدرتي وتحملي، عبء غير مرئي يجفف شبابي ولعابي.

لا أحد يفهم، كيف يخلق الإيمان متاهة في داخلك، يتركك تدور حول نفسك مثل إعصار، مثل خطأ يكرر نفسه.

لا أحد يعرف بعد، لا أحد يعرف أكثر مني، أن الإيمان لا يدلّك على شيء، بل على العكس، الإيمان يعلّمك كيف تضيع.

وكما أسلفت القول، بعد كل هذا، لا أنوي تفسير أي شيء، ولكن إيماني فأس، ولهذا، فمن البديهي أن أتألم طوال الوقت

فأنا به مصابة.

الصورة: رسم لـ  1833 Paul Delaroche

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button