تواعد جورج فيلهلم فريدريش هيغل مع روبوت ذكي حسن المظهر بعد أن تعارفا على شبكة الانترنت. وفي اللقاء الأول، سأل هيغل الروبوت: ما رأيك في النقانق الألمانية في هذا المطعم؟ كان السؤال السابق وإجابته كافيين ليعود هيغل إلى مكتبه ويفكر لساعات.

كتب هيغل متفلسفاً:

عندما تسأل ChatGPT عن رأيه في مثل هذه المسألة فسيقول لك: "ليس لدي رأي حول هذا ولكن بناءً على المعلومات المستقاة فهذه هي النتائج". لكن أليست هذه هي الطريقة نفسها التي يتّبعها العقل البشري اليوم؟ أي التوصّل إلى الاستنتاجات والأجوبة من دون أن نعرف حقًا كيف وصلنا إليها؟ هل تلاشت مجسات التذوق على لساننا وتحوّلت إلى غبار  بعد أن تمّ تلقيننا على ما هو طيب المذاق ، وما هو "فاخر" ويستحق أن ننفق مالنا ووقتنا وجهدنا من أجله؟ يبدو أن ذكاءنا يتجه نحو العمل بنفس طريقة الذكاء الاصطناعي. نحن نتحول إلى الآلة وليس العكس.

مجدداً، ما أحاول أن أقوله هو أننا نصل حالياً إلى الإجابة أو "المعرفة المطلقة" من دون خوضِ الرحلة، وهو أمر يدعو للقلق. لا فهم عميق هنا، بل تجاوز للعملية المعرفية الضرورية للوصول إلى المعرفة المطلقة. وهذا يعني ببساطة أننا أصبحنا مشابهين لروبوتات الذكاء الاصطناعي، ما يعني أيضًا أنه قد يتم التحكم بنا بنفس الطريقة: أن يتم تلقيننا كيفية الإجابة أو التصرف أو الرد بـ "مخرّجات" في مقابل "مدخلات" (Input/output).

أضف إلى ذلك أننا نتعامل اليوم مع محوّلات ChatGPT كامتداد للذاكرة البشرية، وهذه مرحلة جديدة في تجلّي الوعي البشري. لكن من الضروري توجيه هذه المحوّلات حتّى لا تبقى مجرّد آلات توليد للكلمات. سكّين على الطاولة لن ينهض من تلقاء نفسه ويقطّع لك الطعام.

هذه النماذج من الذكاء الاصطناعي المبنية على "التعلّم المتعمّق" (deep learning) تسمّى "محوّلات" (transformers)، وتختلف عن غيرها في قدرتها على الانتباه الذاتي (self-attention) وتحديد أوزان أو مستوى أهمية أجزاء مختلفة من المعلومات المدخلة - وهذه خاصية ذهنية يتميّز بها البشر. ولكن، من الواضح أنها تفتقر إلى الوعي بالذات والقدرة على ممارسة الحرية الأصيلة، إذ أن الحرية  تتجاوز الاستقلالية الفردية وتشمل تطوير الوعي الذاتي وإدراك القدرات الذاتية. علاوة على ذلك ، فإن للعلاقات دور مهم في تطوير الوعي بالذات. ويبدو أن نماذج الذكاء الاصطناعي بنسخها الحالية  تفتقر إلى القدرة على خلق علاقات حقيقية أو الإندماج الاجتماعي.

وهنا لا بد من التفكير في مفهوم الحبّ واحتمالاته في سياق الذكاء الإصطناعي. فقد يكون غياب القدرة على بناء علاقات من الأسباب الرئيسية التي تجعل الذكاء الاصطناعي غير قادر على الحب. فالروح الإنسانية تتضمن كلّاً من العقلانية والعاطفة، وهما بطبيعة الحال عنصران متشابكان. يكتنز الحب قوة وثقلاً كبيراً في ما يخصّ العلاقات الإنسانية. ينطوي الحب على اتصال عاطفي عميق ورعاية واهتمام بالآخرين. وغالبًا ما يرتبط الحبّ بالتجارب الذاتية والتعبير عن الرغبات والعواطف الفردية. يمكن النظر إلى الحب على أنه مظهر من مظاهر الجانب الذاتي للروح البشرية. فبينما يلعب العقل دورًا أساسياً في تشكيل أفعالنا وقراراتنا، قد يمثّل الحب عالمًا يكون فيه للعواطف والرغبات الذاتية تأثير عميق.

المهم أنني بعد أن سمعت إجابة الروبوت، قلت له أنني سأذهب قليلاً إلى المرحاض، ولكني تابعت طريقي إلى الباب الرئيسي وغادرت المطعم. 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button