يستحيل على العقل البشري إدراك الواقع برمّته، فنعتمد على القصص المُثقلة بالرّمزيات في محاولتنا لاستيعاب مقتطفات من الواقع. لكن يسهل الكذِب أيضاً في ظلّ كثرة الرمزيات. ففي عالمٍ تراكمت فيه قصص مليارات الحيوات، تتشوه القصص مثلما تتشوه الكلمات في لعبة "تلفون مقطوع" (التي يهمس فيها أول اللاعبين كلمة في أذن اللاعب المجاور، فتدور الكلمة على المجموعة فينطق أخر اللاعبين بكلمة تختلف في أكثر الأحيان عن الكلمة الأصلية). في "عالم الكبار" تأخذ اللعبة منحى سياسي، وتتغلغل الرمزيات *الملغّمة* ما بين اللاعبين، في ظلّ ما يسمّى بـ "الصراع حول ماهيّة الحقيقة".  كنا نقول "التاريخ يكتبه المنتصرون"، لكن كتابة التاريخ في عالم المشاركة الفورية غدت كتابة الواقع فور حدوثه. وبالتّالي، في الصراع حول ماهيّة الحقيقة تتسابق الجهات المختلفة لنقل صورة عن الواقع، لتؤثر بدورها على الآراء والتوجهات التي ترسم هذا الواقع. وللرمزيّات المرتبطة بالقانون الدوليّ حصّة مميّزة في هذا الصراع، فكلمات مثل "دفاع" أو "حرب" أو "إرهاب" تستبطن ألغاماً غالباً ما تُستغل لتغذية الهيمنة المبطنة في عالم ما بعد الاستعمار، متستّرةً بغطاء "الإنسانية" و"العدل".

هناك عبثية عميقة في وزن هذا الصراع على الواقع، بلغت أوجها في دورة من العنف الصهيوني الأخيرة، عندما هرعنا إلى مساحاتنا الرمزية المستحدثة لنحاول التأثير على الصراع الرقمي حول ماهية الحقيقة، وتفكيك الألغام التي أحاطت بصورة الواقع الفلسطيني. أحد الألغام الرئيسية التي تحيط بالكلمات المستخدمة لوصف العنف الصهيوني في الإعلام هي تلك الألغام المزروعة في لغة القانون الدّولي المتأصّل في فكر المستعمر والذي يُعرف عن نفسه للعقل الليبرالي كصوت العدل في العلاقات الدولية. فعلى سبيل المثال، في تصريح مقتضب صدر عن جو بايدن، تداولته المنصات، وردت جملة: "إن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". مصطلح "دفاع" هو من أثقل المصطلحات في هذا الصراع ومن أكثرها إبتذالًا. فكلمة "دفاع" التي تبنتها قوانين الحروب الحديثة، تتأصل في نظريّة تسمى بنظرية "الحرب العادلة" التي استُخدِمَت في عدد من المدارس الفلسفية لتقديم تبرير "حضاري" للعنف المسلّط على الآخر. وترتكز هذه النظرية على عقليّة "المدافع ضد المعتدي" التي تعبّر عنها السينما الأميركية بإصرار مُقدس وحيث ترتكن سردية ستوديوهات مارفل. وتستمدّ هذه المدرسة الفكرية من قوانين الحروب الحديثة نوعًا من السّلطة في الصراع حول الحقيقة، ولقد أعيد إحياء هذا المصطلح لإضفاء الشرعية على مختلف أشكال الهيمنة، فأصبحت سوق الأسلحة "سوق الدفاع" و دراسات الحرب "دراسات الأمن والدفاع" وقصف العراق "دفاع استباقي".

وعند الوقوف على استمرارية الرمزيّات المستمدّة من هذه النظرية (التي ما زال مجتمع القانون الدولي يأخذها على محمل الجدّ)، نجد أنفسنا أمام مَعلم آخر من معالم العبثية اللغوية في عصرنا. وبالمبدأ، بُنيت هذه النظرية على تصوّر "الحرب" كمعركة بين جيشين متكافئين إلى حد كبير، وما زال هذا التصوّر قائماً بقوة في قلب قوانين جنيف التي حُدِّتث أخر مرة في 1948 (وذلك باستثناء بروتوكولات 1977 التي جاءت بعد طلوع روح دول العالم الثالث)، وقوانين لاهاي (التي تحاكم الاحتلال وتعتبر فلسطين قانونياً مُحتلة) وهذه حُدِّثت آخر مرة في 1908.
والسبب وراء التمنّع عن تحديث هذه القوانين بسيط جداً: ليس من مصلحة الدول المتقدمة إقتصادياً ورؤوس أموالها التي ترى في الحرب مساحة للتحريك السليم لعجلة رأس المال المعولم، كما يشرح علي القادري. فيفرُض هذا التخلّف التشريعي على ممارسي القانون الدّولي حتمية تقبّل هذه العبثية، عبثية الحديث عن تفجير مباني حضرية في مدينة تحت الحصار بلغة تم اصطناعها للحديث عن معركة خيّالة ما بين جيشين.
وثمة بعدٌ آخر لإصرار الدول المتقدمة على الحفاظ على تخلّف قوانين الحروب، فهي لم تعد تخصّها بشكلٍ مباشر. ذلك أن موازين القوى العالمية اختلفت بعد الحرب العالمية الثانية. ولن تُدنِس الدّول المتقدمة أرضها بالعنف "الشرشوح"، بل تفضّل ممارسة صراع القوى بـ"الريموت كونترول" على أراضي الآخرين. وبالفعل، باتت غالبية الحروب في القرن الحادي والعشرين حروبًا بالوكالة. وفي هذا السياق، يحدّثنا بودريار في سلسلة مقالاته "حرب الخليج لم تقع" عن أن الحرب الحديثة هي "تمرين على الهيمنة وليس عملاً من أعمال الحرب". عندما قرأت كلماته هذه وجدت العبارة التي سأدافع عن وجودها في معاجم الوعي الجمعي المعولم والغائبة عن معجم القانون الدّولي، وهي "الهيمنة". هذه العبارة التي نادى بها أول أجيال الدول "المعتّرة"  في اللحظة "ما بعد الاستعمارية" عندما انتبهوا إلى ما يحصل لهم: "المستوى الأعمق من الاستعمار" هو "اللي فيو انت مُستعمَر ومفكر حالك حر" أو "مسجون ومش عارف مين سجانك" .*  

الهيمنة التي تزايدت وطأتها في عِز الليبرالية جاءت لتبيعنا عبثيتها الفجّة. ونَجَمَ عن الهيمنة استنساخ للـ "مواطن الأسمر منزوع الإرادة"**. ومن هذا الاستنساخ خُلقت أشكال غريبة من الضوضاء التي استخدمت كصورة لتبرير الهيمنة الأصليّة. فعلى سبيل المثال، جاءت كلمة "إرهابي" المرتبطة بصورة للعنف الذي وُلِد من تراكم الهيمنة، مربوطة بشكل لاواعي بكلمة "العدو". في سياق نظرية الحرب العادلة، أدان الفلاسفة  كفيتوريا العدو لاختلافهم عن الأوروبيين، وأصبح الإختلاف نفسه رمزًا لما يهددهم. وبتالي، من يصنَّف تحت هذه الفئة يشيطن بشكل يبرر التقليل من قيمة حياته في موازين الصراع حول الحقيقة. وفي هذا السياق أصبح سؤال "من هو العدو؟ " و من يستحق هذا العنف؟ معولم ومتلفز ومقنّن في أطر العوالم الاستهلاكية. أما الإختلاف بدوره، فيُعرَْف سياسياً، ويتشكّل في نهاية المطاف من خلال البُنى الهرمية للهيمنة، واللا مساواة التي أصبحت متأصّلة في النظام الاقتصادي المعولم.
هكذا، أجد نفسي مضطرة إلى خوض نقاش حول سخافة تأطير حركة حماس تحت كلمة إرهابي. هذا التأطير اللغوي الذي يدفع العقل الليبرالي إلى افتراض بُخس حياة الفلسطيني، التي يتأصّل بلاها في سُمنة هيمنته.

وفي الصراع حول الحقيقة، تسعى إسرائيل جاهدة للحفاظ على هيمنتها ضمن الحيز المادي من خلال القنابل والجنود المراهقين والمستوطنين المسلّحين وكاميرات المراقبة والدرونز، وفي الحيّز اللّغوي المتداول في الإعلام وغرف الأمم المتحدة وصفوف القانون الدوليّ في الجامعات. فتصطنع أو تستغل الرمزيات لزرع ألغام مستمدة من الإرث الأكبر للهيمنة في عصر استكمال الطبقة الأعمق للاستعمار.
وفي لعبة التلفون المقطوع الدولية، تحرص إسرائيل على تأطير القضية الفلسطينية كحرب بين طرفين متساويين لتغطي على صورة الهيمنة الاستعمارية، والفلسطيني كإرهابي معادٍ للعالم الديمقراطي لتمحو إنسانيته، وقنابلها وأعلامها وقبّتها الحديدية كدفاع عن حقٍ اختلقه رأس المال.

وأما نحن فقد أصبحنا سعاة لفضح العبثية المبطنة في هذا الصراع. وأمست تعرية العبثية أهم أسلحتنا المعنوية في ظل تفاقم الألغام الرمزية الكاذبة وبُعدها عن الواقع الذي تدعي تمثيله. تعرية العبثية في موقف من يمتنع عن تسمية "الحاجات بأسمائها"***، وتعرِية التناقض القابع في جدل من يرى الفضيلة في التسلط ويدّعي خلاف ذلك. تعرِية "عبثية الظلم""****، تعرِية  تعجرف من توقّع أن بوسعه حذفنا عن الواقع وإنشاء عالم "رأسمالي سعيد الشركة فيه أقوى من الأوطان".* تعرِية فجاجة اللغويات الحديثة وبلاهتها. هنا نجد أن مساهمتنا في الحيز المعنوي هي إعادة تعريف الأطر التي خلقها الصّراع حول الحقيقة، مما يجعلنا أمام صراع أكبر من القضية الفلسطينية، صراع ضد فجاجة الهيمنة العالمية، التي تمادت في "ثقل دمها" أكثر من ذلك الطفل "السئيل" الذي لا ينفك عن النواح عندما يُنتزع الإيباد من بين يديه.

* قصيدة البنكنوت لمصطفى إبراهيم
** مستوحاة من برنامج الأخ الأكبر لقنديل والمذاع على مدى مصر
*** قصيدة المانيفستو لمصطفى ابراهيم
**** مستوحاة من تحريرها كلها ممكن لتميم برغوثي

الصورة: الهيمنة عن بعد

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button