هل فكرت لمرة ماذا يعني أن تتمرد على ما هو فيك وليس منك؟

ويؤلمك اكتشافك أنك ركضت بأقدامٍ ليست قدميك، ولمسافاتٍ تخصّك حاولت اجتيازها، كما يؤلمك اكتشافك أن قدميك ركضتا لمسافاتٍ لا تخصها، أيّ الحالتين أقسى؟ بالنسبة لي فإن الأقسى هو اكتشافك بأن صديقك تجاوز المسافات التي تخصّه من دون ركض. 

ركضت لأميالٍ كثيرة. ضحكت ضحكات أكلها الصدأ. وقفت مراراً تحت الشمس. حاربت العبودية. فتحت الصناديق المغلقة. أغلقت الأبواب بوجه العدو. صبرت على ملفات العمل من أجل الراتب. خسرت عيناي بين صفحات الكتب. وقفت مراراً على حافة الهاوية وحاول دفعي الأصدقاء، العائلة، أفكار المجهول، فشلي في التنظيم والإدارة…

لطالما أنقذتني العشوائية، الفوضى.. لم أحاول ترتيب شيء، وأدعوكم ألّا تفعلوا ذلك أيضاً، كي لا تُمنهجوا فكركم وفق قواعدَ ينادي بها المحاضِر والشيخ ورب العائلة. 

جميعنا وقّعنا بروتوكولاً نجهله، منذ ولادتنا وحتى هذه اللحظة. ولم ينجُ منّا، إلّا من أدرك ذلك. فهل أدركته؟ 

إن مجرد خروجك من جوف أمك لتبصر النور لأول مرة، كفيلٌ بأن يجعلك مكتمل الأهلية فيما يتعلق بالعرف. في "دفتر طفولتي"، دوّنت أمي بعض المعلومات عني: أول كلمة نطقتها، التاريخ الذي مشيت به للمرة الأولى، أول يوم آكل وحدي، ردة فعلي عند تذوق السيريلاك... وحملت هذه الذكريات كعبء ثقيل. فأنا لم انطق اوّل كلماتي بعد، و ما زلت أتعلم كيف أمشي وحدي، وأُجبِرت مرات عدة على أن آكل وحدي، ولم اختر يوماً تذوّق السيريلاك. كل هذه التواريخ المدوّنة ليست لي. إنها تشهد فقط على بدء تكويني. 

الله رسمني ثم أوكل إليهم مهمة نحتي. انا لست ديني، لست اسمي، لست لوني، لست شكلي. خرجتُ من القالب، فأحضروا لي ما هو "على مقاسي". خلعت العديد من الأثواب وارتديت الكثير غيرها، شرط أن تكون "على مقاسي"، لأجد أخيراً أنها مجرّد أشياء لا تخضع للقياس. كان عليّ أن أرمي عنّي الأرقام، طول، عرض، انحناء. وحدةٌ كاملة. جسدٌ واحد. عينان إثنتان. أذنان. يدان. يد واحدة لا تصفق. أقدام، تركض، تهرول. ممنوع الوقوف. 

وقفت.

وقفت أتحسس جلدي، أستنشق نفسي، أقبّل يديّ، ألمس وجهي. بلاستيك. 

أدور يميناً، يساراً، حول نفسي. أحاول أن أتذكر عدد المرات التي حاولت القفز فيها من داخلي لأخرج للعالم. كان لدي إما الخيار بأن أمتد وأمتد وأمتد إلى أن أطفو على سطح كل شيء، وإمّا أن أقفز بعنفٍ مرة ومرتين وثلاثة إلى أن أُكسر. فأكون بهذا قد كسرت عُرفاً. 

يُقال بأن ما يميّزنا عن الآلة هو الإحساس. لكنني أكاد أجزم أن لا أحد منّا كوّن إحساسه بنفسه. حتى أنا، ولفترة طويلة، لم أكن أُحسّ. افتح ردّات الفعل المغلّفة، أتلقها كالهدايا ثمّ أهديها في المناسبات. أطلق سراحها ليقلّ رصيدي، وكلّما قلّ رصيدي أكثر زاد ربحي، أغدو فارغة، أو بالأحرى أتفرّغ لنفسي. 

إلى كل من ضحكت معهم، انا لست ضحكاتي. 

وإلى من بكيت بقربهم، انا لست ذاك البكاء حتى. 

أنا لست هذا الغضب المتجدد، ولا هذا الهدوء الساكن. الجذع الذي أمسك به أعلى هذه الشجرة لا يعني لي شيئاً سوى أنني به أتجنّب السقوط. كذبت وقلت بأنني أحب الشجر.

اصطدمت بنفسي، فكانت أضرار الاصطدام جسيمة. في الشارع يصطدم الناس بعضهم ببعض. يشتمون العولمة، قلّة فرص العمل، سيطرة التكنولوجيا، الآلة تفرض نفسها في كل مكان. مهلاً، آلات ما قبل الحداثة تلعن الحداثة!

إن انتشار الآلات، ما هو إلّا خصخصة للعمليات الآلية في مجالاتٍ معينة، أمّا نحن فنحيا حياتنا كلّها كآلة "فور فري"، لنكون بذلك قد دفعنا ثمن الحقيقة التي تموت الأجيال وتحيا في سبيل عيشها، لتتوهم بأنها عاشتها، لتكتشف بعد الموت بأن كل ما عاشته كان بروفة للموتِ نفسه. يقدمون لك صندوقاً مغلقاً ويقولون: "هذه ذكرياتك." 

هذه ذكرياتك، أي أنه حتى الذكرى مقدّرة عليك: هنا عليك أن تحنّ. هنا عليك أن تغضب. هنا عليك أن تحب. هنا عليك أن تكره. حملت غضبي معي، وخرجت من الصندوق. خرجت عن قواعد الكاتالوغ الذي أرفقوه بي. 

طريقة الإستعمال، دواعي الإستعمال، الفوائد... والكفالة! لا كفالة للذكاء الاصطناعي، لكن حياتنا تبدأ بسند كفالة! مهزلة! 

والمهزلة الأكبر، أننا رضينا، ونحن حتى عن أنفسنا لم نبحث، فعمّا نبحث؟ 

ندمّر كل الفرضيات بإحتماليةٍ واحدة. نبني على نتيجتها الإدراك والإيمان، ثم ندخل الحرب. هذه الحرب الباردة ليست حرباً تكنولوجية بالمعنى الصريح، تحتاج الحرب لمواجهةٍ بين الطرفين. من نواجه؟ آلة؟ 

لا سبيل لمواجهة الآلة التي في الخارج إن لم نواجه اولاً الآلة الكامنة في دواخلنا، هذا المحرك الخفي القابع وراء كل الملامح المقنّعة التي تخشى حدوث "data issues". نقف في انتظار تاريخٍ مجهول، نخزّن فيه طاقات الإنفجار، نقول إننا سنسدل حينها الستارة، أو ربما نرفعها. أمام هذا التاريخ، نمزّق كينونتنا كقربان من أجل أن نستمر. لِمَ نستمر؟ لم نرضَ بكل أشكال الاستمرار شرط ألّا نقف؟ ماذا لو وقفنا قليلاً نحدّق باللحظة! عن أية آلة سنتخلّى؟

إلى أي عالم سنهرع؟ إبتلعنا أنفسنا فارتقينا إلى اللاوجود، وفي اللاوجود أكثر من عالم، نختار عوالمنا ونغرق، نقول يَنْبَغِي أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ فكُلّ من عليها فان. أمّا أنا فأريد أن أفنى بطريقةٍ أكثر إنسانية. أو ربما، سأموت بإنسانيتي. فأنا متى كنت، سقطت من الشجرة ورقة، ومتى متّ، نبتت ورقة أخرى. من أين أبدأ؟ ولمن هذا الظلّ؟ أبحث في الكتالوغ عن ظلٍّ لا جذور له، فأجد الشمس. تمحي الظلال جزئياً، تخلقها بشكل كلّي، طقسٌ غير مستقر. أنا بنت الشمس، و في يدي الكثير من الظلال، أخنق الظل كلما قست تربتي. لكنني لا أظن هذه المرة بأننا الى التراب نعود.

الصورة: لوحة للرسام Petrus Christus

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button