* بداية، وحرصاً على التّصارح بيني وبينك، يتوجّب عليّ الاعتراف بأنّني لا أخطّط لاقتحام ما هو جديد في السّطور القادمة. وهذه ليست دعوة منّي للتوقّف عن قراءة ما سأكتبه. أوّلًا، لأنّه من الممكن أن يستعيد القديم، الّذي نقوله بطريقة مختلفة، قلقاً ما، انفعاليّاً أو معرفيّاً. ثانيًا، لأنّه من الممكن أيضًا أن يكون ذا مدلولات مهمّة على الرّغم من كونه مكرورًا، فيكون القول الجديد، بهذا المعنى، مهمّة القارئ لا المؤلّف، أي مهمّتك يا صديقي، مهمّتك الّتي تناط بك في اللّحظة الّتي تنكبّ فيها على القراءة. وفي الحالتين، فأنا لا لشيء أكتب سوى كوني أفكّر باستخدام القلم. وأنا إذ أتهيّب من القول الجديد، فلأنّ الجديد الّذي يتفتّق من اندفاع متهوّر نحو طريق الدّقّة القاتلة، غالبًا ما يكون ممسوخًا. ولأجل ذلك، فأنا أكتب كي أكون، لا كي أقول.


كانت أوّل فوضى في الشّعور أختبرها في حياتي، عندما تعثّر انتباهي بكتاب مرصوف بين الكتب الّتي سكنت مكتبة والدي، ملقى كجثّة هامدة. وأنا أسمّي شعوري آنذاك بالفوضى الانفعاليّة لأنّه كان مزيجًا من الحزن، والرّغبة بالانتقام. "كي لا ننسى" لوليد الخالدي. كتاب يوثّق ما جرى سنة ١٩٤٨. ما يقارب الخمسمئة وخمسين قرية فلسطينيّة دمّرت بالكامل. حوالي ثمانمئة ألف طفل وطفلة، شاب وشابّة، مسنّ ومسنّة، اقتُلعوا من أماكن عيشهم، وتحوّلوا لمهجّرين يجوبون قرى ومدن البلدان المجاورة دون قدرة على إزاحة ملامح الضّيق والكرب عن وجوههم. وهنا، سوف تمنحونني العذر إزاء ما ترونه في البنية الظاهريّة للنّص. فالنّص جاء على هيئة شذرات متشتّتة ومبعثرة كالماء الّذي ينساب في كلّ مكان، لأنّ هذا أكثر ما يمكنني فعله كي أصوّر التّشتت الّذي اختبره الفلسطينيّون عشيّة نكبة ١٩٤٨، ولأنّ الماء، أبدًا، يحتفظ في داخله بحقّ العودة إلى البحر.

**

في مجمل محاولات الكتابة عن فلسطين، أصرّ على تجنّب الألفاظ الّتي تحمل معاني الشّفقة، وأحرص على استبدالها بألفاظ تعبّر عن كوني معنيّاً بالقضيّة بطريقة مباشرة، ذلك أنّ الشّفقة يمكن ألّا تكون في محلّها، إلّا أنّ الاشتراك في المصير لا يمكن أن يكون كذلك البتّة.

**

أنا أكتب عن فلسطين كي أستفسر نفسي عن أحوالي. الكتابة هنا إذن استطلاع وإعادة اكتشاف لمكنوناتي الدفينة. حيث تأتي الكلمة كارتداد يبدأ من جوهر إنسانيّتي ويرجع إليه، كي يصحّح ويصوّب ما فسد، أو يقتلع ما تسرّب من خباثة هذا العالم الماجن إلى داخلي. وهذا في الأساس ما يخوّل القضيّة لتمتدّ في الزّمن، لأنّه في لحظة مساءلتها تتكشّف حقّانيّتها وتنفض غبار الشكوك عن نفسها من خلال صرف التأمّل في دواخلنا، أو إنسانيّتنا ولو لم تكن نقيّة تمامًا. وفي اللّحظة نفسها تتقوّم التعرّجات أو الانزياحات الّتي من الممكن أن تكون قد اختبرتها ذواتُنا. فتقبل بالتّالي القضيّة الامتداد. لأنّه ما من إمكانيّة لمسخ الذّات كليّا إذا ما نحن استعدنا ذكر فلسطين مرارًا. وهكذا، يكفي أن يظلّ الإنسان حاضراً كي تظلّ القضيّة حاضرة، والعكس صحيح. ألا يعني هذا فيما يعنيه أنّ الإنسان يظلّ إنساناً بفضل قضيّة يلتزم بها؟

**

اللغة أشبه بكرسيّ متحرّك يدور بين الدّراسات والمعارف كافّة، لتأخذ المسافات الّتي تفصل هذه المعارف عن بعضها البعض نحو التّلاشي. فتصير بهذا المعنى منفذًا نطلّ من خلاله على الواقع الإجماليّ. وهنا ينبغي القول أنّ دلالة العنصر اللّغويّ لا تقوم فقط ضمن الحدود المباشرة للجملة، ولا يمكن أن تُختزل فيها. بل إنه دائماً ما تتضمّن الجملة دلالاتٍ تتعدى مجموع المعاني الّتي تحيل عليها الكلمات بطريقة مباشرة. وهذا ما يخلخل علاقة الكلمات بالأشياء. وأقصد بهذا قدرة الجملة على الانفلات خارج نفسها بعيداً عن المعنى الّذي تُقادُ إليه مجموع كلماتها بخطّ مستقيم. وهذا، في الأساس، هو ما يتيح لنا، نحن الّذين نفكّر من خلال الكتابة، مراوغة اللغة بما هي جهاز مغلق. إلّا أنّه عندما يتعلّق الأمر بمعنى لا يحتمل الأمر ولو قليلاً الزّيغ، فيكون من الأجدى عندها أن تمتدّ العبارة كي تغطّي مجمل ما يرومه الخطاب ولو حاصر القارئَ المعنى الأوّليُّ. وأنا هنا، إذ أستعيد الطّفل في داخلي، الّذي تختلط في صدره مشاعر التأسّي والرغبة بالانتقام عندما تنتحي به الكلمات للحديث عن فلسطين، والنّاضج الّذي اعتملت اللّغة في داخله طيلة فترة نضجه، أرغب باستبدال لفظة "النّكبة"، ومدّها كي تتّسق مع رغبتي بإزاحة ما تنطوي عليه، في نظري، من خلل. لأنّ لفظة "النّكبة"، تحيل فقط على المأساة، وتتجاوز المرتكب. فتكون اللفظة باعثة على الحزن فقط، مفلتة من باطنها الرّغبة بالانتقام، الّتي تُثار فعلياً بالإشارة للمرتكب.

**

ما الجديد؟ لا شيء، فلسطين ما تزال محتلّة، والأنظمة العربيّة ترخي عبء هزلها السّياسيّ على القضيّة الفلسطينيّة. ولكن إذا كان التّاريخ عند هيجل ما هو إلّا تاريخ تعميق وعي الإنسان بمفهوم الحريّة، فأنا لم أسأل نفسي مطلقا ما إذا كانت ستتحرّر فلسطين أم لا، لأنّه ما من أحد بامكانه معاندة التّاريخ الّذي تبقى كلمته هي العليا. والفصل العنصريّ بما هو التّمظهر الرّاهني لتقويض الحريّات حيث تنصهر حريّة الممارسة الفعليّة للبشر في قالب الانتماء لدين أو عرق، فتتقلّص وتتقزّم، وهذا يفسّره التعاطي مع عرب المستعمرات الصهيونيّة كمواطنين من رتبة ثالثة لا يمكن أن يفلت من سيرورة التّاريخ. وهذا مرتبط بشكل أساسيّ بالتّأويل الهيجيلي لطبيعة العلاقة بين الحريّة والزّمان. فلا تخافوا ولا تحزنوا، "إسرائيل" إلى زوال مهما راوغت، والأنظمة العربيّة الرّجعيّة إلى تفتّت مهما فعلت في نهاية الأمر.

الصورة: صفحة من كتاب "كي لا ننسى" لـ وليد الخالدي

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button