جاك، جاك كيرواك، جاك، تمهّل قليلاً، الفرامل، إنتظر، خذني معك، سأدفع ثمن الوقود. خذني معك في السيارة. 

إنتا مين؟

أنا الموكسي…

إرقَب إرقَب…

صدفة جميلة استاذ جاك، وأخيراً، بحثت عنك في كل مكان، في الحانات وغرف الفنادق الرخيصة، عند أصدقائك وفي منزل عمّتك في نيويورك. لم أتوقع أن أجدك على الطريق. 

علينا التوجّه غرباً، حالاً، فورأً، تعال معي، رافقني، لا تطرح عليّ الأسئلة كعادتك، دعني أتكلّم. أشعر أني أتحدّث مثل صديقي القديم "دين". فلنبدأ من جديد…من رواية "على الطريق". أنا سال برادايز (Sal Paradise)، أقصد أنا جاك، كيرواك، لكن شخصية سال برادايز في الرواية هي الطريق الأقصر للوصول إليّ. نعم، بإمكانك الغوص عميقاً في شخصيتي من خلال أفكار وأفعال ومخاوف وأحلام وأوهام وكوابيس سال - سلفاتوري - المخلّص - سال بارادايز. قصّتي هي قصّة شاب كاثوليكي يتنقل على الطريق، باحثًا عن الجنة، عن الله. غريب اه؟ نعم، أحد خواجات "جيل البيت" يبحث عن الله. ولكنه يبحث عن الله في الناس، في السهول والهضاب، في الروكي (سلسلة الجبال وليس سيلفستر ستالون)، في الغرب، على الطريق. رأيت الله أولاً في أصدقائي، كنت مخطئًا، بسيطة، الإنسان يتعلّم. ثم اكتشفت الله في طيبة الغرباء، فلولاهم لما استطعت السفر من شرق الولايات المتحدة إلى غربها، أميركا، يو أس إيه، ثم نفذ الوقود من سياراتهم. انطلقت في رحلة روحانية بنكهة كاثوليكية بعد موت أخي. هذه الرحلة أوصلتني في النهاية إلى البوذية. كاثوليكيتي هي عائلتي ونوستالجيا ما قبل الحرب. بوذيتي هي حياتي على الطريق. كما سترى بعد قليل، رحلة البحث هذه كانت مدفوعة بحب السفر، الواندرلاست كما يقولون على انستغرام. رحلة رحلة رحلة. سأتوقّف.

سأحاول مرة أخرى…

التقيت دين موريارتي - أقصد نيل كاسيدي - لأول مرة بعد فترة وجيزة من انفصالي عن زوجتي. وكنت تخطّيتُ حينها وعكة صحية خطيرة لن أكلّف نفسي عناء الحديث عنها الآن، ولكني كنت أشعر بالإرهاق وبأن كل شيء قد مات. مع دخول دين موريارتي حياتي بدأت الفترة التي يمكن أن أسمّيها حياتي على الطريق. كانت طاقة دين كناية عن انفجار صاخب للفرح الأميركي، كان ويسترن، ريحاً من الغرب، قصيدة من السهول، شيء جديد في سباق مع المجتمع بحثاً عن الخبز والحب. قبل دخول دين إلى حياتي، كنت أحلم دائماً بالذهاب إلى الغرب الأميركي وأخطط لهذه الرحلة، ولكني لم أنطلق أبداً. أعلم أنك يا موكسي تملك ملفاً على الكمبيوتر الخاص بك، منذ 2014 ، تخطط فيه لرحلتك على الطريق في الولايات المتحدة، ثم تلعب أغنية Ventura Highway لفرقة America، تقول لك "You're gonna go, I know I know I know".  خلف الشارع المتلألئ كان الظلام، وخلف الظلام كان الغرب ينتظرني. توجّب علي الذهاب.

لحظة.

رحلتي بدأت عام 1947، مع دين. تظهر في الرواية شخصيات من مؤسسي حركة جيل البيت: نيل كاسيدي (دين موريارتي)، ويليام س. بوروز (بول لي العجوز) الذي حاورته في عدد سابق من رحلة، ألن غينسبرغ (كارلو ماركس)، وأنا جاك كيرواك (سال بارادايز). أول رحلاتي على الطريق كان الهدف منها ملاقاة أصدقائي في الغرب. لا أعرف ما إذا كانوا يفكرون بي ويعتقدون أنني صديقهم أيضًا، أو أنني ببساطة متعلّق جدًا بهم، بالآخرين. أعتقد أن أصدقائي رائعون، أو ربما شعرت بالإحباط بعد انفصالي عن زوجتي. لا أعرف. بعد رحلتي الأولى سألتني صديقة: "سال، أين وجدت هؤلاء الأشخاص الرائعين؟ لم أرَ أحداً يشبههم من قبل!" أجبتها: "لقد وجدتهم في الغرب." للمرأة في روايتي قصة أخرى. المرأة هي الصوت الحكمة في الرواية. ماريلو حبيبة دين قالت لي:  "سيتركك دين في البرد في أي وقت عندما يكون له مصلحة في ذلك". وهذا ما حدث لي بالفعل، مرارًا وتكرارًا. أنا لا أتعلّم أبداً. كنت أهذي في ميكسيكو العاصمة، وعندما تعافيت اتضح لي أنه كالجرذ، ولكن كان علي أن أفهم تعقيدات حياته، كيف قرّر أن يتركني وحدي مريضاً. حتى هذه اللحظة ما زلت أفكّر بـ دين، أتذكّر كيف اتخذنا قراراً بأن نبقى معًا إلى نهاية الدهر... أتذكّر دين موريارتي، أتذكّر والده الذي لم نعثر أبداً عليه، أتذكّر دين موريارتي. 

أنت تعلم أنني كنت أتابع دراستي في جامعة كولومبيا، كان عليّ أن أبقى هناك، ولكني كنت أبحث عن مغامرة تنجدني في كتابة روايتي. لكن شيئًا ما دفعني أيضاً إلى الطريق: البحث عن الجواب. لكن بدلاً من ذلك، قابلت "الغرابة" في رحلتي. هل تعلم يا موكسي؟ أفضّل الأشخاص المجانين، أولئك الذين يعيشون بجنون في أحاديثهم وفي أفعالهم وفي توقهم للخلاص، الباحثون عن الرغبة في كل شيء وفي كل لحظة، الذين لا يتثاءبون أبدًا أو يتململون أو يقولون كلاماً مألوفًا، بل يحترقون، يحترقون ويحترقون، مثل شموع صفراء تنفجر كالعناكب بين النجوم حتى يصدح صوت في البرية يقول لك: Go west, young man".

سأبدأ مجدداً، من منتصف الرحلة…

في منتصف الرحلة، استيقظت في ساعة الغروب، في غرفة فندق رخيصة، كانت الشمس تميل إلى الإحمرار، وكانت تلك هي اللحظة الأغرب في حياتي، الأغرب أقول لك. لم أكن أعرف من أنا - كنت بعيدًا عن المنزل، مرتاباً ومتعبًا من السفر، لم أكن أعرف أنني في فندق، كنت أسمع خطوات بطيئة في الطابق العلوي من الفندق وأصواتاً أخرى حزينة، نظرت إلى السقف المرتفع المتصدع ولم أكن أعرف حقًا من أكون لمدة خمسة عشر ثانية تقريبًا. لم أكن خائفا. كنت مجرد شخص آخر، شخصًا غريبًا، وكانت حياتي كلها حياة شخص مرتاب، حياة شبح. كنت في منتصف الطريق في أميركا، عند الخط الفاصل بين شرق شبابي وغرب مستقبلي، وربما لهذا السبب شعرت بهذه الغرابة.

اعتاد موريسون أن يصرخ "The west is the best, Get here and we'll do the rest". أما أندريه بريتون فكان يردّد: "اترك كل شيء ... اترك زوجتك ... انطلق على طول الطريق السريع...".  قال لي راي مانزارك، عازف الكيبورد في فرقة "ذا دورز" الكاليفورنية: "لو لم تنشر كتاب على الطريق، ما كانت فرقتنا لتبصر النور. لقد غيّرتَ حياتي كما غيّرت حياة كثر غيري." كما تلاحظ، الموسيقى مهمة بالنسبة لي ولتاريخ أميركا. سافرت في رحلتي خلال ما يمكن أن نسمّيه عصر الجاز الذهبي. كنا نتعاطى الموسيقى وغيرها من المواد المخدرة. وجدنا فيها خلاصنا. فكتبت هذه الرواية بعفوية تشبه ارتجالات موسيقى الجاز التي كنا نسمعها هنا وهناك. دوّنت على دفاتر كنت أحملها في كل مكان ما كان يطفو من اللاوعي بشكل عفوي، ثم طبعتها على آلة طباعة لقّمتها ورقة طولها 36 مترًا. ما تكشّف لاحقاً كان نسخة خام من الحقيقة، المشحونة عاطفياً، العفوية. بلا تفزلك وصفّ حكي. وهذا ما كتبته.

سافرت على الطريق بحثاً عن المعنى المفقود، عن أسطورة أخيرة في الغرب الأميركي. عام 1865، ردّد كاتب أميركي عبارة أصبحت ركناً أساسياً في الثقافة الأميركية. "Go West, young man, Go west and grow up with the country". أتت العبارة في سياق التشجيع على التوجه غرباً، وصدور مرسوم الحيازة الزراعية (Homestead act) الذي حثّ الأميركيين على شد الرّحال، مقدّماً لهم أراضٍ وتسهيلات للاستيطان في المناطق الغربية الشاسعة غير المأهولة وبدء حياة جديدة من هناك، بدلاً عن الهلاك في المدن الشرقية المكتظة حيث انتشرت البطالة والجريمة. طبعاً، تاريخ أميركا هو تاريخ "التوجه غرباً" للاستيلاء على الأرض والخيرات وفرض السيطرة المطلقة بقوة "المنطق" والآلة. إلا أن الدعوة الأخيرة كانت تعبيراً عن اشمئزاز من المدينة ورفض الواقع من جهة، وعن وعد بفردوس في مكان آخر وقدر حتمي من جهة أخرى. هذا الوعد سيرافق الأميركيين في مناسبات عدة. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، دفع جيل البيت وحركة الثقافة المضادة جحافل الشباب إلى الغرب الأميركي، إلى يوتوبيا الهيبيين في سان فرانسيسكو، إلى الغرابة، وهكذا أصبح الغرب، مجدداً، "The West" مصدر الأساطير بالنسبة لهذا الشعب الحديث النشأة. أرض البدايات والفرص اللامتناهية. "التوجّه غرباً" كان وعداً بالسعادة والنجاح. فرصة للتخلي عن الماضي وما اقترفناه من أخطاء والبدء من جديد. إلا أن كثيرين هُزموا أو ماتوا في طريقهم إلى أرض الميعاد، ولم يكن النجاح حليف الجميع. 

راودتني شكوك لفترة.

لماذا هذا الإهتمام بروايتي؟ شعرت أنها قصة عن البورجوازية الصغيرة. عودة إلى الرومنطيقية: بحثٌ عن التفاؤل والخير في الفرد، في الناس وفي الطبيعة والأنهار والسماء والنجوم، حنين إلى الـ Americana - جرن الكبّة والتبولة الأميركية، ردّ فعل تجاه الهزيمة والفشل، فشل زواجي ربما. الهروب من المدينة، تجوال في الريف، رومنطيقية مع خلطة كحول ومخدرات وتحصل على نزعة بوهيمية، خاصة إذا كنت مفلساً معظم الوقت. لكني أقول لك أن روايتي لم تكن أبداً حنيناً رجعياً. روايتي حطّمت حلم ما بعد الحرب في ضواحي أميركا البيضاء. دافعتُ في روايتي عن أسلوب حياة عبّر عن النقيض التام للمادية والامتثال لسلوكيات المجتمع السائد في فترة ما بعد الحرب. ورحلتي "على الطريق" أعلنت عن أفول شمس آخر أسطورة "وسترن"، آخر أساطير أميركا الدموية. عندما عدت من رحلتي الأخيرة، وجدت نفسي في ساحة تايمز سكوير في نيويورك. سافرت ثمانية آلاف ميل حول القارة الأميركية وعدت إلى تايمز سكوير. وفي ساعة الذروة، رأيت بأم عيني الجنون المطلق والصقيع في نيويورك. رأيت ملايين الناس يتصارعون من دون توقّف من أجل المال، من أجل الحلم المجنون، من أجل الاستيلاء، ثم التنهد، ثم الموت، فقط لكي يُدفَنوا في تلك المدن - في المقابر الفظيعة على مشارف لونغ آيلاند. إنها الغرابة بأم عينها. 

أها، يعني وفّرت عليّ عناء صياغة الأسئلة والتفزلك، إنها الغرابة فعلاً. وصلت إلى محطتي الأخيرة.

شكراً جاك، بالتوفيق، الرحلة مستمرة.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button