- طق طق طق
- من الطارق؟
- سيّد فالتر بنيامين. مبروك تدمير الجيش الاسرائيلي لمزار بنيامين في قرية محيبيب الجنوبية.
- يبارك فيك…عفوًا، ماذا؟ أنا لم أقل ذلك. لم أقل "يبارك فيك".
- مفاجأة! أنا المحرّر وهذا حِوار متخيَّل.
- نعم ولكن، أنت تتخيّل وتؤلّف…
- نعم، احتمالات لا نهاية لها. كنت أتمنى أن لا يحصل كل ذلك، أن لا تدمّر قرانا. ولكن..
- ولكنك تُحمّلني كلامًا لم أقلهُ، وقد يكون لذلك أثر على التاريخ والحاضر والمستقبل.
- ولهذا السبب بالتحديد قرّرنا استضافتك. سنضع كل ما هو متاح في خدمة هذه الفكرة. مزيد من الإحتمالات. أن نحدّق في التاريخ، نفكّر كيف ننظر إليه، نتذكّره، ورُبما "نحرّره". أنت هنا في هذا الحوار، بالتواطؤ معنا، تعيدُ طرح مفهوم التاريخ ليصبَّ في مصلحة قرائكَ وسياقاتهم وأحوالهم، معذبو الأرض الذين تحتضن الأرض جثامينهم. على كل حال. لا أظن أنك تعارض ذلك. ستكون فرصة لاستعادة فلسفتك وأفكارك وإعادة ترتيبها، كالمونتاج، في سياقات قد يعتقد البعض أنها عبثية أو إشكالية أو حتّى مستحيلة. فأنت تحدّيت في مفهومك للتاريخ فكرة المسار التاريخي الخطيّ الذي يسير دائمًا إلى الأمام. وتعاملت مع حطام الثقافة السائدة الاستهلاكية من صور ورسومات وتصاميم وكتابات، معتبرًا أنها منبع للحقيقة الفلسفية. إذا أردنا أن نتباهى، يمكننا أن نقول في "رحلة" إن حوارات "جغل بيزنطي" مثال على ذلك: أن نستعيد الركام الفكري الذي تخلّى عنه كثيرون من اللاهثين خلف موكب "التطوّر" والزمن الحاضر، وأن نعيد تدوير هذا الركام ضمن السياقات المعاصرة. ونحن الآن، وسط هذا الدمار الكبير، في فلسطين، في غزّة وفي الضفّة، وفي جبل عامل، نسأل معك كيف لا نخطئ في فهم معنى التاريخ والرّدم.
- أقنعتني، أرجو أن أتعلّم منكم ومن هذا الحوار.
في عام 2015، حضَرتَ عبر أفكارك إلى فلسطين، تحديداً رام الله، حيث تُطبّع السّلطة مع الاحتلال وتتعاون معه. كانت مسألة المقاطعة هي الدافع الرئيسي لزيارتك إذ جاء عقد مؤتمر "بنيامين في فلسطين" بمثابة فعل مناوئ لعدم استجابة "جمعية فالتر بنيامين الدولية" (وريثتك في حاضرنا هذا) لمناشدات ناشطي حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) عدم عقد مؤتمر دولي في جامعة "تل أبيب" في كانون الأول من ذلك العام، بعنوان: "المؤتمر الدولي لجمعية فالتر بنيامين الدولية: الفضاءات، والأمكنة، المدن، والحيّزية". فلماذا فعلًا اخترت حضور المؤتمر الرديف في رام الله؟ هل هو نوع من "البراكسيس"؟
- طبعًا لم أختر ذلك، ولكن المنظمين ارتأوا ذلك. أعتقد أن أفكاري تناسب مؤتمر رام الله أكثر من مؤتمر تل أبيب. كما أن مؤتمرًا يستخدم مصطلحات مثل "فضاءات" و"حيزيّة" لا يستحق اهتمامنا. ولكن، إجابة على سؤالك، التاريخ ليس خيطًا رفيعًا تكون فيه الذاكرة حدثًا تحدّدَ في الماضي الذي انطفأ، بل سيرورة تفسيرية للحاضر. وطبعًا ليس التاريخ فاشيّة أوروبيّة متعالية (بتنوّع ايديولوجيتها التي تدّعي المساواة والحرية لها دون غيرها من الشعوب) تفرض قوّتها على أجساد البشر وأفكارهم وذاكرتهم. أنا لست، من خلال انتحاري التراجيدي، مثالًا للمعاناة اليهودية، بل دليلًا على المعاناة الإنسانية الذي جرّها توحّش العقلانية الأوروبية، وتحوّلِه إلى فاشيات قاتلة داخل وخارج أوروبا على حدّ سواء. كما أنني أنتمي إلى مدرسة فرانكفورت التي شارك عدد من مفكّريها في الدفاع عن الاستعمار الصهيوني لفلسطين. أقول لهم، ولأمثال "هابرماس"، أو تقول "رحلة" لهم، مقتبسة من الرسام "غويا": "نوم العقل يوقظ الوحوش". حتّى مؤتمر تل أبيب هو دليل على استغلال إسمي ومظلوميّتي وإرثي الديني لخدمة الاستعمار. ألا يلخّص هذا الفعل هذه فكرة الصهيونية وتاريخها؟

أوافق. طبعًا أوافق. ولكن ماذا عن إرثك الديني؟
هو إرث في هذا الخيط الرفيع - أي في تاريخي. أنا تمرّدت على التقاليد في نواح كثيرة من حياتي، وقمت بتمجيد تعاطي الحشيش في كتاب خاص عن الموضوع، وتوّجت تمرّدي بانتحاري، وهو فعل يُنافي الدين ويُعتبَر فعلَ تدنيس.
بالعودة إلى الطقطقة في بداية حوارنا، أعتقد أن مكان دفنك أو نصبك التذكاري هو مكان جميل جدًا. وحزين بالطبع. ولكن كان علينا أن ندقّ الباب وأن ننتشلك من مرقدك لكي نحاورك. (قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)، ما الذي أوصلك إلى هذا المكان؟

شكرًا، نعم، أرقد على تلّة جميلة مطلّة على البحر في "بورت بو" على الحدود الإسبانية - الفرنسية بعد أن كنت أحاول الهرب من الموت المتمثّل بالفاشية الأوروبية. اتخذت القرار ووضعت حدًّ لحياتي هناك بعد أن أيقنتُ أنه سيتمّ اعتقالي وإعادتي إلى السلطات النازية حيث كنت سألاقي حتفي. قرّرت أن أختار قدري: هنا ينتهي الخطّ الزمني. أنا أحدّد كيف يُكتب هذا التاريخ وكيف يتمّ تذكّره. أعتقد أن الآية التي أشرت إليها في سؤالك تعبّر أيضًا، من منظاري الخاص، عن الحاجة الدائمة لأن نُبعَث ونحرّر نفوسنا من قبر الزمن وطغيانه. وفي آية ثانية يظهر هذا الطغيان والسجن الذي يعيش فيه الإنسان رغم وسع العالم والزمن: (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ). واللافت هنا أن يكون القَسَم بـ"العَصر"، أي كامل الوقت والزمن الذي هو محل حياة الإنسان ومحل اختباره في هذه الدار وفيه تُسجَّل كل الأفعال والأقوال والمواقف، فيعطي البشر وعدًا أنهم سيحققون الخلاص ولو بعد حين. والتاريخ، برأيي، يتشكّل بالذاكرة، والنسيان والخلاص، أي بكيفية إعادة فهمنِنا وتفسيرِنا له بناء على المعطيات التي يضعها الحاضر، ثم المستقبل، بين أيدينا، حول ما حصل في الماضي وظروفه.
أشرت إلى لوحة غويا ونوم العقل. في اللوحة رجل يدير ظهره ويتلطّى في الظلمة فتظهر الخفافيش خلفه. يذكّرني المشهد بأطروحتك "عن مفهوم التاريخ" حيث تتوقف للحظة لتحدّق في لوحة "الملاك الجديد" فتكتب عن "ملاك التاريخ" المحدّق في ركام الماضي. ما قصّة هذا الملاك؟
هناك لوحة رسمها بول كلي تُدعى "الملاك الجديد". يصوَّر فيها ملاكًا يبدو وكأنه على وشك الابتعاد عن شيء يحدّق فيه. عيناه مفتوحتان على اتساعهما، فمه مفتوح، وأجنحته ممدودة. يجب أن يبدو ملاك التاريخ هكذا تمامًا. وجهه متّجه نحو الماضي. وحيث نرى نحن تسلسلاً للأحداث، يرى هو كارثة واحدة متواصلة، تتراكم أنقاضها فوق بعضها البعض وتُلقى عند قدميه. يرغب في التوقّف للحظة، للحظة جميلة، ليوقظ الموتى ويعيد جمع ما تحطّم. ولكنَّ عاصفة تهبّ من الجنّة عَلقَت بجناحيه، وهي قوية جدًا لدرجة أنه لم يعد قادرًا على إغلاقهما. تدفعه العاصفة بلا هوادة نحو المستقبل، الذي يدير له ظهره، بينما تكبر كومة الأنقاض أمامه حتى تبلغ السماء. ذلك الذي نسميه تقدمًا، هو هذه العاصفة.

أعتقد أن هذا التوصيف للّوحة هو من أقوى أعمال النقد المرتبط بمفهومَي التاريخ والتقدّم… واللوحة كما تصفها هي نقيض لوحة "التقدّم الأميركي" الشهيرة لـ "جون غاست" والتي ترمز إلى التقدّم كقَدَر الشّعوب المتطوّرة أو "عبء الرجل الأبيض".

طبعًا، هذه سردتي… من خلال لوحة الملاك الجديد، أتحدى الرؤية التقليدية الخطيّة للتاريخ باعتباره تقدماً مستمراً في الزمن، وأصوّره بدلاً من ذلك ككارثة متواصلة. مثال على ذلك مفهوم التقدّم في القارة الأميركية. لم يكن التقدّم سوى آلة تدمير لا حدود لها، قتلت شعوبًا بأكملها على مدى قرون بحجة التقدّم فراكمت الثروات والجثث. أمام هذا المشهد الدمويّ، يبدو الملاك وكأنه يريد التراجع، لكنه عاجز عن ذلك. عيناه الواسعتان، فمه المفتوح، وأجنحته الممدودة تعكس الرعب والعجز، مجسدةً وعياً تاريخياً حقيقيًا قد يولد وعيًا ثوريًا. بينما يرى المؤرخون التقليديون في التاريخ سلسلة من الأحداث، يرى ملاك التاريخ كارثة مستمرة… تراكمًا من القمع والحروب والمعاناة التي تتكدس كالحطام. يتوق الملاك إلى إيقاف الزمن، إلى إيقاظ الموتى وإصلاح ما تحطم، لكنه غير قادر على التحرّك. العاصفة، التي تمثل حركة التاريخ إلى الأمام أو التقدّم، بدلاً من أن تقود إلى عالم أفضل، تدفع الملاك بلا حول ولا قوة نحو المستقبل، بينما يتراكم الدمار. ومع أن ظهره موجّه إلى المستقبل، يبقى الملاك مشدوداً إلى ضحايا التاريخ، لكنه عاجز عن مقاومة القوة الجارفة التي تحمله إلى الأمام. أتخيّل الملاك يقول: "إن حطام أبنائنا وأسلحتهم يغطي السفوح، ونحن نرى ذلك بصمت"
يعيدني كلامك إلى شريط مصوّر للشهيد يحيى السنوار يستعيد فيه، على أرض المعركة في غزة عام 2024، قصيدة أحمد شوقي مردّدًا: "للحرية الحمراء باب بكل يدٍ مضرّجة يُدقّ". في هذا البيت إشارة إلى التاريخ والركام - الدماء التي سالت من أجل الحرية. يسجِّل الشهيد للتاريخ أنه هو أيضًا دقّ باب الحرية الحمراء. كما أن استحضار القصيدة يعيدنا أيضًا إلى الحدث الأساسي الذي كَتَبَ من أجله أمير الشعراء هذه الأبيات، أي من دقّوا باب الحرية في دمشق عام 1925، فتردّد صدى حطامهم في غزة بعد مئة عام.
ملاك التاريخ يشهد ليس على الركام فحسب بل أيضًا على الأيدي المضرّجة بالدماء. هل يمكنك أن تحصي عدد الجثث التي شاهدتها على الانترنت في السنة الماضية؟ هل يمكنك أن تعدّ من قضى من أقربائك وجيرانك؟ هل يمكنك تذكّرهم بعد سنة؟ خمس سنوات؟ عشرة؟ هل يبقى أثر للمباني المدمرة؟ الردم؟ تتحوّل أحداث الماضي إلى ومضة سرعان ما تنطفئ. لماذا تنسى اصلًا. يجب أن يكون التذكّر أولوية. تذكّر من قُتل، ومن قتَل، وما يتم طمسه، محوه، استطلع كومة الركام من شرفة زمنكَ الحاضر. تذكّر ملاك التاريخ، ماذا يفعل في هذه اللحظة المشرِفة على التاريخ… يتشبّث بما تراه عيناه من قهر وظلم وجهاد وصمود واستبسال ويجدّد العهد لهذه الأجيال.
يعيدنا كلامك عن الموتى إلى الشاعر محمد الفيتوري وقصيدته المعروفة بـ "نشيد الموتى"، وأعتقد أنها تحاكي مشهد ملاك التاريخ الذي يستطلع الركام فينادي الموتى ليعودوا إلى عالمنا الحاضر: "عودوا أنّى كنتم فقراء كما كنتم \ غرباء كما كنتم \ يا أحبابي الموتى عودوا \ حتى لو كنتم قد متّم". هل يريد الموتى أن ننتشلهم من الركام ونعيدهم إلى عالمنا؟ أم يفضّلون النسيان والراحة؟
تشبيه جيّد. في القصيدة حوار بين الأحياء والموتى يشبه مشهد ملاك التاريخ المقيّد بالحاضر والمتأمّل في الماضي، فيكتمل المشهد في القصيدة حين يجيبه الموتى: "من هذا الطارق أبوابَ الموتى؟ \ يا هذا الطارق من أنتَ؟ \ أيكون العالم؟ \ لم يبقَ لدينا ما نُعطيه \ أعطيناه دمَنا \ أعطيناه حتى أعظمنا وجماجمنا \ ومّضّينا مقهورين \ لا نملك إلّا بعضَ ترابٍ لم نُعطيه."
نحن نشعر بالحنين، أما الأموات فيشعرون بالخذلان … رغم ذلك، التواصل يتمّ عبر دق الباب - بوابة الانتقال من الحاضر إلى التاريخ - اللحظة: "يا هذا الطارق أبواب الموتى \ ضوضائكَ تفزعنا \ وتقض مضاجعنا \ فارجع لا تُرجعنا". الضجيج الناتج عن قرع الباب يقلق الموتى، فهم لا يريدون العودة إلى عالمنا بعد كل ما قدّموه من تضحيات: "يدعونا كي نرجع \ لم يبق لدينا أرجل".
ولكن كيف يُكمل الفيتوري الحوار في القصيدة؟ إقرأ معي ماذا يقول الموتى: "لكنا سوف نسير ومياه النهر تسير \ وشموس الأفق تسير وتراب الأرض يسير \ ونظل نسير نسير." هذه نهاية سعيدة. فمع أن الموتى أصبحوا في الماضي ولن يعودوا، فهم حاضرون بيننا حتى ولو تقطّعت أوصالهم. فتضحياتهم لم تذهب سدى بل تركت بصمتها في التاريخ. إذًا، لمفهوم السعادة صدى يتردّد في مفهوم القيامة أو الخلاص. فالماضي يحمل معه مؤشرًا سريًا يشير إلى قيامته. ألا يلامسنا النسيم ذاته الذي هبّ على من سبقونا؟ ألا يتردد صدى الذين أُسكِتت أصواتهم بالأصوات التي نصغي إليها اليوم؟ إذا كان الأمر كذلك، فهناك بروتوكول سري بين أجيال الماضي، أي الموتى، وجيلنا، أي الأحياء. فقد كان من المنتظر أن نأتي إلى هذه الأرض. وقد أُعطينا، مثل كل جيل سبقنا، قوة قيامة ضعيفة، للماضي حقّ فيها.
أوافقك الرأي، ولكن إذا كان التاريخ هو نوع من العلاقة بين الحاضر والماضي، كيف ترى وظيفة المؤرّخ، وهل هي في الأساس مسألة قراءة للتاريخ أو انخراط أكبر فيه؟
إذا أردت إعادة تجربة فترة تاريخية معيّنة، فعليك أن تزيل أولاً كل ما تعرفه عن مسار التاريخ الذي مضى من رأسك. إنها في الأساس عملية تعاطف. منشأها هو الثقل في القلب، الكسل، اليأس من فَهمِ الصورة الحقيقية للتاريخ التي تظهر كومضة سريعة وتختفي. كان علماء الدين في العصور الوسطى يعتبرونها السبب الرئيسي للكآبة. "فلوبير"، الذي كان يعرفها، كتب: "قليل من الناس يمكنهم أن يخمّنوا كم كان يجب أن يكون الإنسان حزينًا لإعادة إحياء قرطاج." إذًا، دور المؤرخ ليس توثيق الأحداث وهو على مسافة منها، هذا هو دور المراسل الصحفي، أو على الأقل ما يدّعيه. دور المؤرخ هو أن يتذكّر، أن ينخرط، ويكافح ضد القوى التي تخفي جرائم التاريخ وتحاول تغييب من قضى.
كآبة غارقة بالوضوح… طيب، أوافق، لا أجد الوقوف على الحياد ممكنًا، لذا أسألك هنا… مع من يصطف المؤرّخ؟
الجواب لا يقبل الجدل، للأسف: مع المنتصِر. أولئك الذين يحكمون اليوم هم ورثة جميع من انتصروا في كل الأزمنة التي ولَّت. "مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا". لذا فإن التعاطف مع المنتصرين يعود بالنفع على الحكّام الحاليين في كل مرة.
تقصد الرئاسة والحكومة الجديدة في لبنان؟
لا، لا أعرف عنهم شيئًا، ولكن، بخصوص تعاطف التاريخ مع المنتصرين، في ذلك الكثير من المعاني بالنسبة للماديّ التاريخي. من يحقق النصر حتى يومنا هذا، يسير في موكب الانتصار الذي يطأ فيه الحكّام الحاليون أولئك الذين ينحنون تحت أقدامهم، الآن وفي الماضي. الغنائم، كما هو الحال دائمًا، تُحمَل في موكب الانتصار، تُعرَف بالإرث الثقافي. على المادي التاريخي أن يحذو حذو المُراقِب الذي يتسم نشاطه بالتباعد. فما يراه كإرث ثقافي هو جزء لا يتجزأ من نسل أو سلالة لا يمكنه أن يتأملها دون فزَع. إن وجود هذا الإرث لا يعود بالفضل فقط إلى عمل العباقرة العظام الذين صنعوه، بل أيضًا إلى الشّقاء المجهول لمن عاصَرَهُم. لا يوجد توثيق للثقافة ليس في الوقت نفسه توثيق للهمجيّة. ومثلما أن الثقافة ليست محصّنة أمام الهمجية، فهي أيضًا ليست محصّنة أمام عملية النقل (transmission)، حيث تنتقل من يد إلى أخرى. لذا فإن المادي التاريخي يتحرك بعيدًا عن هذا قدر الإمكان. ويعتبر مهمته أن يعكس التاريخ ضد التيار وينتشل الإنسان والذاكرة من الموت.. "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".
هل يملك المؤرخون، الماديّون أو العقلانيون أو الرومنسيون، القدرة أو الأدوات المطلوبة لنقل صورة حقيقية عن تاريخ ما؟
إن التعبير عن الماضي لا يعني التعرّف عليه "كما كان فعلاً". بل يعني الإمساك بذاكرةٍ وهي تومض في لحظة خَطَر. بالنسبة إلى المادية التاريخية، فإن الأمر يتعلق بالتشبث بصورة من الماضي، كما لو أنها رمت نفسها فجأة، في لحظة الخطر، نحو الإنسان الفاعل في التاريخ. يهدد هذا الخطر الإرث التقليدي تمامًا كما يهدد متلقّيه. فكلاهما يواجه المصير ذاته: أن يتحوّلا إلى أداة في يد الطبقات الحاكمة. في كل عصر، لا بد من السعي إلى إنقاذ التقاليد من الامتثال الذي يكاد يبتلعها. فالمسيح المنتظر لا يأتي فقط بوصفه مخلّصًا، بل يأتي أيضًا كقاهرٍ للمسيح الدجال. والمؤرخ الوحيد القادر على إشعال شرارات الأمل في الماضي هو ذاك الذي يحمل القناعة التالية: حتى الموتى لن يكونوا بمأمن من العدو إذا انتصر. وهذا العدو لم يكفّ عن الانتصار.
نصل هنا إلى نهاية حوارنا ونغلق الباب لندعَك وشأنك بعيدًا عن الضوضاء. أخيرًا، نشارك مع قرائك اقتباسًا نقَلَه هربرت مركوزه عنكَ في نهاية كتابه "الإنسان ذو البعد الواحد"، ويلخّص الهدف المطلوب من كلّ واحد منّا، تجاه التاريخ، وتجاه من قضوا نحبهم وهم يدقّون باب الحرية: "مُنِحنا الأمل من أجل أولئك الذين فقدوا الأمل".
شكرًا فالتر