في ظل "غياب الدولة" ومؤسساتها وعجزها عن تقديم حلٍ لأي مشكلة من المشاكل اليومية التي يستيقظ عليها المواطنون، يلجأ هؤلاء وكخيار أخير لهم، بعد أن فقدوا السيطرة على العيش، إلى طرح همومهم أمام الرأي العام، على التلفزيونات بشكل خاص، في سبيل إيجاد حل أو حتى لمساءلة المعنيين بمسائلهم العالقة.
تقوم المحطات المحلية "بمَنتجة" بؤس المواطنين في برامج إجتماعية تستثمر فيها تلك الفئات المقهورة، طمعاً منها بتحقيق نسب مشاهدة عالية ولخلق الجدل والإثارة بذريعة أن هدفها نبيلٌ وسامٍ، أي المساعدة وفعل الخير. لكن الأساليب الفاضحة والمهينة المتكررة للتعامل الإعلامي مع قضاياهم يثبت العكس، حيث يَعمَد المحاوِرُ إلى تعرية ضيوفه مباشرة على الهواء، محاولة منه لدفعهم إلى الإنفعال قبل أن يُعِدّ عنهم، تقاريرَ محشوة بالمؤثرات الصوتية والبصرية التراجيدية.
وهكذا أصبحت القضايا الاجتماعية التي لا تنتهي في بلاد العسل والبخور، من فقر ومرض وإهمال وحتى خلافات شخصية بين الزوج وزوجته، مواد إستعراضية دسمة تُقدم مجاناً على الهواء، ينتظرها الجميع من كافة الأعمار والأجناس. مقدِّمُها الذي "ينشر غسيل" ضيوفه، يفتح ملفاً، وسرعان ما ينتقل إلى آخر، في مدة لا تزيد عن العشر دقائق ليعزز عند المتلقي المشاهد كل أنواع الإنفعالات ويتركه بدون إستنتاج حلٍ واحدٍ مطلوبٍ ينهي به مأساة الضيف مرة وإلى الأبد.
أما في الفضاء الافتراضي، يقوم المدوّنون والمؤثرون بدعم القضايا الاجتماعية من على منابرهم الخاصة. غالباً ما يخاطب هؤلاء متابعيهم بلغات أجنبية بهدف استعراض مهاراتهم اللغوية، بما أن اللغة العربية باتت "خشبية" وليست "للحداثيين" أمثالهم، ولينجحوا بتملق العقل الأجنبي على مواقع التواصل. قليلٌ من التنقيب في ما وراء صورتهم، يؤكد أن تأييدهم لأي حراك، الحراك المناهض للسلطة السياسية، دون لعب دور سياسي واضح ينادي بتغيير جذري في المنظومة، ما هو سوى للإستعراض وليس لترك أي أثرٍ جديٍّ حقاً.
يقودنا هؤلاء إلى نشر ثقافة المنظمات غير الحكومية والترويج لها بسذاجة كحلٍ بديل، ويعملون على إطلاق حملات توعية وتمكين غير مجدية. أطلق بعضهم مؤخراً حملات حملت عناوين مثل "مين الفلتان "و "بكير عليا" نشرت على اللوحات الإعلانية على الطرقات، تُظهر صوراً مهينة لنساء معنّفات، على وجوههن كدمات زرقاء، وجروح دامية، أو صورة لطفلة خائفة تلبس فستاناً أبيض، مرفقة بالهاشتاغات المذكورة دون أن تؤتي بأي نتيحة سوى تذكير الضحايا من النساء بمآسيهن.
وفي حملة أخرى من جمعية أخرى حول قضية أخرى... طرح "المؤثرون" المتنورون أصحاب الأفعال الخيّرة قانوناً ضد الفقر المدقع، لدعم العائلات الأكثر فقراً، فأعادوا إنتاج صور البؤس المستشرية، كأن الهدف منها هو إعادة تفعيل الملاحظة العينيّة: أن نَعِي الفقر وأن يقودنا "الفلاشباك" إليه مجدداً إذا ما نسيناها لوهلة. المشاهد التي إرتكزت عليها الحملة هي من زيارة الجمعية إلى أحدى العشوائيات، ليُخيّل لك أنك دخلت عالماً سفلياً منقطعاً عن العالم، تغطي فضاءه أسلاك كهربائية متشابكة، أطفاله حفاة يجلسون على الرصيف بملابسهم الرثة، البيوت الصغيرة متلاصقة، وبورنوغرافيا الفقر مستمرة.
على الرغم من أن إقرار القانون المقترح قد يشكل بداية جيدة، إلا أن الحملة فشلت ولم تحقق العريضة الإلكترونية هدفها. لا يمكن لنا سوى أن نشعر بالإحباط أمام هذا الكم الهائل من التراجيديا التي تنتشر كيفما أدرنا وجوهنا. التمثيل الخاطئ لضحايا النظام المتفلت والدولة السائبة. مسرح البؤس الكبير الذي يلهينا عن أسباب الظلم والفوضى الحقيقية والذي لا يهمه سوى تجيير الشعور بالشفقة لدى المتلقي ليستمثرها ويجني من خلالها الأرباح.
لا شك ان سرد القضايا الإنسانية أمام الرأي العام يلهم الكثيرين ويدفعهم نحو حراك سياسي، لا إلى جمع صداقات خيرية تعالج النتائج دون مجابهة الأسباب. علينا الإعتراف بأن جمع حملات التبرع والتوعية لا تشكل سوى ضمادة لجروح يلصقها بنا هؤلاء "المؤثرون" وأصدقاءهم في المجتمع المدني كحلّ وحيد لمواجهة الاستبداد والعنف الممنهج. علينا الإعتراف بأنه خاطئ الإفتراض أن الفقير لا حيلة له، وأنه مجرد متلق للصَدَقة. بعض هؤلاء الأغنياء المتبرعين يقدمون أنفسهم منقذين وأبطال، في حين أنهم هم من أسباب البؤس الضارب في المجتمع. و"فعل الخير" الإستعراضي الذي يتهافتون به على المحتاجين ليس إلا إستيلاد متجدد للبؤس يضمن استمرار "استعراض" هولاء وإعادة صناعة شروط بؤسهم.
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة