اسمي "معروف"، لكني لست اسما على مسمى، أشعر بأني عكس اسمي المدون في الأوراق الرسمية.

ما هذا بحق السماء؟ لا أستطيع أن أتحرر من هذا الاسم البارد المدعي.

في إحدى المرات، سألت كاتب هذا النص: "هل أنت فعلا سعيد؟" أجابني: "أنا غريب ووحيد، الاسم مفروض علي قسرا، لا حل لدي سوى أن أبرمج أعصابي طوال الوقت على أني سعيد إلا ربع وغريب تمام الغربة"

تمام يا كاتب قدري، فهمتك. لكن، رجاءً. انظر واصغِ إلي.

إني لا أستطيع أن أعيش في هذا العالم كما هو مرسوم في ذهني. سأشرح للقراء. أما أنت يا كاتب فلا يخفى عنك شيء.

واقعيا، أنا موظف حكومي مكلف بالحسابات في مصلحة من المصالح. أعمل وكأني لا أعمل. وعيي غير حاضر مع هذه الكائنات المايكروسكوبية… أقصد زملائي. أحاول أن أهرب طوال الوقت وأبرمج أعصابي على عالم الأرقام التسعة وما جاورها، وأحاول أن أنقذ ما يمكن إنقاذه حتى لا تظهر النتيجة الحمراء، أي الديون، لكن لا جدوى، لا حياة لمن لا روح له. المؤسسة تمضي بقدرة قادر سواء أفلستَ أم لم تفلس. هناك منقذ في آخر النفق.

ماذا عني؟

أنا كما قلت: أهرب من ترهات زملائي الموظفين ونقاشاتهم الخاوية عن الترقية والحسابات الشخصية الضيقة، وأقول مجددا: هذا ليس عالمي.

ثم ها أنذا أخرج من دائرة العمل، لألج دائرة البيت. تستقبلني الزوجة بالطلبات المتكررة وهلم ثرثرات سخيفة عن العادات والتقاليد، ويجب أن نكون مثل فلان على مقاس علان والبريستيج. فتقاطعني عن السرد، لتقول: "توقف يا معروف، أنا كنت مثلك لا منتمية وغريبة، لكن واقعي لا يرتفع. أنت تشاء أكثر مني، لذا دعني أتماهى قليلا مع هذه الثرثرة".

ثم ثالثا: أخرج من هذه الدائرة القذرة غريبًا لألج أخرى بنفس الصفة، إنها دائرة عائلتي الممتدة، تنطق كلاما مسكوكًا مكررًا في كل مناسبة دينية أو سواها: "يا معروف عليك بخروف العيد السمين، اذبحه قبل أن يذبحك، احفظ التقاليد تحفظك فإن لم تحفظها خذلتك". وهلم ترهات…

عبثا، حاولت أن أخرج قليلا من هذا الوعاء، إذ جلست ذات يوم مشمس قائظ أمام التلفاز وسبابتي تتسكع يمينًا وشمالاً في الموبايل بحثا عن ريلزات مسلية. ثم في لحظة مفاجئة، تحدث الساكتان الناطقان (التلفاز والهاتف الذكي) عن فوائد الانتماء للأسرة والعائلة والقبيلة وزملاء العمل ومجرتنا الفضائية…

فهل أنا فعلا منتمٍ يا عالم يا ابن الكلب؟

الجواب بلا مواربة: لا

ما الحل يا دكتور؟

زرت طبيب الأعصاب ليمنحني جرعات مليئة بكمية مقتدرة من المخدرات الكيميائية المقبولة لدى أهل العلم "المحترمين"، سألني الطبيب أسئلة سريعة آلية تنحصر في أكثر من لماذا وكيف ومتى؟ والقليل من ماذا؟

وفي الهنيهات التي كان يستجوبني فيها الطبيب كان لاوعيي يسألني وأرد عليه، سألني عن الكثير من استفهامات ماذا:

ماذا لو جربت أن تدوخ وتعيش تجربة الإغماء لساعات غير محدودة؟

ماذا لو جربت أن تهجر كل شيء، وتترك كل شيء وراءك مثل بطل فيلم "إنتو ذو وايلد"، أو أقل حدة كما فعل بطل فيلم "البحر بيضحك ليه"؟ لقد كان خلاصه البحر وسحر السيرك وعوالم اللا مرئيين المهمشين.

ثم ماذا لو جربت أن تعيش وسط صحراء الربع الخالي؟

ماذا لو جربت أن تعيش في الغابات الاستوائية بمفردك؟ ثم لاحقا تلجأ للقبائل "البدائية" لتحميك من هول الطبيعة ووجهها المتوحش.

ماذا لو جربت أن تسكر وتخدر نفسك بجرعات مخدر لا يقبله أهل العلم "المحترمون" الكيوت؟

ماذا لو استمعت السايكيدليك روك؟ قيل لي أنه مجدٍ بشكل لحظي.

لا هذا ولا ذاك أيها اللاوعي المنفلت.

ثم رابعا: أجبت على الاستفهامات التي انهالت علي من الطبيب واللاوعي في آن واحد، فشرعت في تناول الدواء جرعة وراء جرعة، حتى صرت شبه انسان لا منتمٍ، لا لنسقه الواعي ولا حتى لمشاعره و كيانه.

لقد ازدادت غربتي ولا انتمائي. صرت ثملاً ومخدرًا، ولم يعد لي أثر لا في دوائر العمل والعائلة ولا حتى في مجرة درب التبانة الحقيرة. لقد فقدت حبل الوريد مع رفيقي اللاوعي.

استشرت صديقي (كاتب هذا النص) حول نازلتي، قال لي بالحرف الواحد: "استرخِ ثم استرخ ثم نم قليلاً، اترك نفسك بين اليقظة والنوم، بعد ذلك خاطب لاوعيك، لعلّك تجد ضالتك، ثم نم قرير العين، واحلم".

ثم خامسا: هربت، ثم أغلقت على نفسي باب الغرفة، لم أعد أكثرت لأي شيء. لقد فقدت رغبتي تجاه كل شيء. إني غريب ولا منتمٍ في مربع الوعي، فما الذي سأخسره لو جربت حل صديقي الكاتب؟

توالت التجارب الواحدة تلو الاخرى. برمجت أعصابي مسبقا على أن أنتقل من حالة الغريب إلى اللاغريب. خاطبت لاوعيي، وقلت له: أريد أولا أن أرتبط بفنانة ألعاب سحرية، تجيد فنون الخفة، وإضمار ما يُرى وما لا يُرى، وتعرف أيضًا مفاتيح جسدي، حتى نضاجع بعضنا البعض دون قيد أو شرط. وأوصيته بأن لا أعمل إطلاقا. لا أريد أن أكون عبدًا لأحد، ولا لمؤسسة، او أي فساء كيفما كان نوعه!

أنا ملك لنفسي، أريد أن أعيش في غابة مطلة على المحيط الهادر، آخذ منها المن والسلوى، وآكل من بقلها وفومها وعدسها وبصلها وفواكهها، وكل شيء… ولن أقبل بطعام واحد. يعني أريد كل شيء، أو كما صدح بملء فاهه الرابور علي طلباب: "كل حاجة، كل حاجة…!"

لكن، بعد كل هذه التجارب المتتالية، شعرت بأن شيئًا ما ناقص. أي نعم تحررت نسبيا من غربتي في عالم الوعي ومن دوائري المتشابكة. لكن…

-"لكن ماذا؟؟" سألني صديقي كاتب قدري.

+ "يا أخي أشعر بأن الامور محكومة بالدوائر حتى في هذا العالم المرموز، خذ مثلاً: شريكتي أو رفيقة قلبي وجسدي الساحرة قالت لي بأن علي أن امثتل لإفرازات الصندوق الأسود، الذي يحرك عالم الأحلام واللاوعي، وأكدت لي بأننا نحن الاثنين محكومان بما يمليه علينا هذا الصندوق، لأنه يسجل أفكاري وأعصابي ومشاعري وتجاربي الفاشلة والناجحة، الرائعة والمحبطة، ثم يحولها إلى رؤى مرموزة."

-"طيب…هل قمت بمقارنة هذين العالمين، يعني أيهما يشعرك بانتمائك وبأنك أقل غربة؟" قاطعني كاتب هذه السطور.

+ "طبعا عالم الأحلام واللاوعي أقل غربة … لكن…؟؟"

-"لكن ماذا؟؟"

+"لكني تعشمت أن أكون معروفًا حقيقيًا، اللاغريب بشكل كامل وليس نصف الغريب. فهمتني؟"

-"اممممم… أتدري يا معروف، يا غريب ويا نصف غريب؟"

+ "ماذا يا إله قدري؟"

-"لست إلهك كما تظن، أو كاتب سيناريوهاتك على نحو قدري كامل، أنا أيضا محكوم بالدوائر، أكتبك وفق ما تمليه علي الماكينة الكبرى."

+"الماكينة؟"

-"أجل ماكينة أكبر مني ومنك! لذا تقبل وضعك كغريب حينًا ونصف غريب حينًا آخر مع عوالم النوم والأحلام. يعني دخلت ثقب الوعي كغريب ثم خرجت من ثقب اللاوعي نصف غريب!"

+"لكن… لا… لا يمكن…"

-"اسمعني جيدا، لا داعي للبحث عن خلاص آخر، هذا وضعك، احفظه يحفظك، فإن لم تحفظه خرجت من دائرة الأمان."

+" اسمعني أنت أيضًا، سأغامر، سأخاطر، لكن ليس معك أيها الكاتب الحذر. سأغامر مع كاتب أقدار مفتوحة، يجعلني منتميًا إلى عالمي. فهمتني؟؟"

-"لم أفهمك. لكنك ستظل غريبا ونصف غريب. فهمتني؟؟"

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button