عندما سكتت مدافع الجيوش الأوروبية معلنة نهاية الحرب العالمية الأولى، كان المستعمرون الأوروبيون قد أحكموا سيطرتهم على غالبية القارة الأفريقية، ونجحوا إلى حد كبير في قمع الموجة الأولى من الانتفاضات الأفريقية ضد الغزو الاستعماري. بيد أن الحرب حفّزت مقاومة أفريقية ضد الإجراءات التي أقرّت بعد الحرب مثل زيادة الضرائب والعمل القسري، ومن أجل حقوق أكثر من نصف مليون أفريقي تم تجنيدهم في الجيوش الاستعمارية أثناء الحرب. وعلى الرغم من فعاليتها في كثير من الأحيان، كانت هذه المقاومة بشكل عام محليّة للغاية وسريعة الزوال، ويرجع ذلك جزئيًا إلى القمع الشديد الذي تعرّضت له من قبل المستعمِر. في 1917، كانت الرابطة الاشتراكية الدولية لجنوب أفريقيا هي المنظمة الماركسية الثورية الوحيدة في القارة (تبعها في عام 1920 الحزب الشيوعي المصري). عارضت العصبة الحرب العالمية الأولى وشكّلت أولى النقابات العمالية السوداء في البلاد، بقيادة تي تيبدي وجوني جوماس وهاملتون كراي.

الثورة البولشفية والكومنترن

إلا أن الثورة البولشفية سرعان ما لفتت انتباه شريحة أكبر من المثقفين والعمال السّود من أفريقيا والشتات. وعزّزت أهمية الأفكار الماركسية في النقاشات حول قضايا التحرر الوطني والتمييز العنصري لعقود لاحقة. ثم دعا الكومنترن إلى الاستقلال التام لأفريقيا، متبنياً منظورًا أفريقيًا في مؤتمره الرابع في 1922. ثم أسس اثنان من الماركسيين السّود من الولايات المتحدة، كلود مكاي وأوتو هيسود "لجنة حول مسألة التحرر الوطني والتمييز العنصري"، وكان إطار العمل المقترح متأثراً بأفكار البان أفريكانيين وليام دو بوا وماركوس غارفي من جهة، ومنسجماً مع موقف الكومنترن بأن الاستعمار والعنصرية متشابكان على نطاق دولي وبالتالي يجب محاربتهما على هذا النطاق. وقد لعب الشيوعيون السّود من الولايات المتحدة الأدوار الأكثر أهمية في تطوير استراتيجيات الكومنترن. لكن في منتصف عشرينيات القرن الماضي، سعى البعض، مثل لوفيت فورت وايتمان، إلى فتح وتطوير قنوات اتصال مع الطلاب الأفارقة وممثلين للعمال من القارة، بهدف تنظيم مؤتمر للبان افريكانزيم. لن يبصر المشروع النور على الرغم من دعم الكومنترن له. وفي 1927، قادت مجموعة من الشيوعيين الألمان تنظيم المؤتمر التأسيسي لعصبة مناهضة الإمبريالية والاضطهاد الاستعماري (LAI)، الذي جذب 170 مندوباً إلى بروكسل، من بينهم مجموعة صغيرة من الناشطين الأفارقة من فرنسا وجنوب أفريقيا. وخلال المؤتمر، ألقى لامين سنغور، شيوعي سنغالي يعيش في فرنسا، نقدًا لاذعًا للاستعمار الفرنسي، متحدثاً عن سوء معاملة الجنود الأفارقة الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى. لامين يتحدث هنا إنطلاقاً من تجربته الشخصية. فهو قاتل في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية وفقد إحدى رئتيه. ثم عاد إلى فرنسا في 1921. وفي 1924، انضم إلى كل من الحزب الشيوعي الفرنسي (PCF) ومنظمة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالراديكاليين من المستعمرات الفرنسية، الاتحاد الانتركولونيالي (UIC). سرعان ما بدأ سنغور الكتابة والتحدث نيابة عن الإتحاد وترشح على لائحة الحزب الشيوعي الفرنسي في  الانتخابات البلدية في باريس في العام التالي.

اتّهم سنغور وأعضاء آخرون من الحزب الشيوعي الفرنسي الحزب بإيلاء القليل من الاهتمام لمسألة الاستعمار الفرنسي في أفريقيا، وبتجاهل أوامر الكومنترن للانخراط في التنظيم بين العمال السود. نتيجة لذلك ، شكّل سنغور، إلى جانب شيوعيين من الجزر الكاريبية وغرب أفريقيا، قيادة لجنة الدفاع عن الأفارقة في القارة والدياسبورا (CDRN) والمنظمة التي خلفتها، Ligue de la Défence de la Race Nègre (  LDRN). التزمت كلتا المنظمتين بإنهاء الحكم الاستعماري الفرنسي والعمل من أجل "التحرر الكامل للأفارقة". في حين أن قادة CDRN و LDRN كانوا منضوين في الحزب الشيوعي الفرنسي، حاولوا الحفاظ على استقلالية المنظمات الجديدة التي استقطبت مئات الأعضاء في باريس والمدن الساحلية في جميع أنحاء فرنسا، خاصة عمال الموانئ والبحارة، فتمكّنوا من توزيع منشوراتهم وإقامة اتصالات في مدن موانئ غرب أفريقيا، على الرغم من حظر صحيفتهم في المستعمرات.

قدم الشيوعيون السّود مظالمهم مباشرة إلى الكومنترن ، الذين أخذوا شكاواهم على محمل الجد وقاموا بانتظام بتوبيخ قادة الأحزاب الشيوعية في البلدان المذكورة أعلاه بسبب "الشوفينية". وفي بعض الأحيان ، دفعت جهود الشيوعيين السّود ومسؤولي الكومنترن بإجبار الحزب الشيوعي الفرنسي لدعم تمرد Gbaya في المستعمرات الفرنسية بالكاميرون ، والتي بدأت ردًا على العمل الجبري.  وهكذا ظل العديد من الشيوعيين السّود والأفارقة في عشرينيات القرن الماضي ملتزمين بالكومنترن وبأهمية محاربة الرأسمالية والإمبريالية جنبًا إلى جنب. وفي الاجتماع الافتتاحي لرابطة مناهضة الإمبريالية (LAI). عام 1927، قرأ لامين سنغور كلمة شدّد فيها على ضرورة "تدمير بلاء الأرض، من رأسمالية وإمبريالية، واستبدالها بتحالف الشعوب الحرة. حينها، لن يكون هناك المزيد من العبودية والقهر".

في 1928، رد الكومنترن على انتقادات الشيوعيين السّود حول أداء أحزابهم الوطنية من خلال إنشاء هيئة جديدة: لجنة النقابات الدولية للعمال الأفارقة (ITUCNW). كان التوجه الصريح لـ ITUCNW تجاه العمال السّود استجابة للوزن الديموغرافي والاقتصادي المتزايد للطبقة العاملة السوداء في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا، وكذلك نتيجة اندلاع الاضطرابات في منطقة البحر الكاريبي وغرب أفريقيا بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، تم حظر النقابات العمالية الأفريقية من قبل الإدارات الاستعمارية، لكن الإضرابات التي قام بها عمال المناجم وسكك الحديد وغيرهم لم تتوقف في السنغال وغانا وغامبيا وسيراليون ونيجيريا وجنوب أفريقيا. كان مقر الاتحاد في أوروبا، لكنّ القيادة تشكّلت من مجموعة من الشيوعيين السّود في الولايات المتحدة: جيمس فورد ، وجورج بادمور ، وأوتو وهيرمينا هويسوود. جمعت المنظمة بين السياسية البروليتارية الثورية وفكرة البان آفريكانيزم القائلة بأن الأفارقة والمتحدرين من أصل أفريقي لديهم مصالح مشتركة تمتد عبر البحار. اجتذب المؤتمر في النهاية سبعة عشر مندوبًا من الغرب الافريقي وأوروبا ومنطقة الكاريبي والولايات المتحدة. وقد أعاقت تنظيم المؤتمر التحديات اللوجستية المتمثلة في جمع مندوبين من جميع أنحاء العالم، لا سيما خلال بداية الكساد الاقتصادي العالمي. لكن في كثير من الحالات، مُنع المشاركون المحتملون من السفر بسبب أنشطتهم السياسية – كما كان الحال مع المندوبين الأفارقة من جنوب أفريقيا.

بيروقراطية ستالين

بحلول نهاية العشرينيات من القرن الماضي، سيطرت البيروقراطية المحيطة بجوزيف ستالين على الدولة السوفياتية. نتيجةً لذلك، أصبحت أنشطة الكومنترن موجهة أكثر فأكثر نحو إنشاء بيئة دبلوماسية دولية آمنة للبيروقراطية السوفياتية الجديدة. أدى تخلّي ستالين عن مبادئ الكومنترن المبكرة إلى إبعاد ناشطين مثل بادمور. كان لهذه التغييرات أيضًا تأثير عميق على الحزب الشيوعي الوليد في جنوب أفريقيا (CPSA) الذي كان في ذلك الوقت يكافح من أجل "أفرقة" نفسه والابتعاد عن أصوله كمنظمة تتكون أساسًا من العمال الأوروبيين. كما ناقش الحزب توجهاته السياسية التي كان هناك أيضًا بعض الالتباس حولها، على سبيل المثال، كيفية محاربة الانقسامات بين العمال البيض والسّود داخل الحركة العمالية الأوسع. بعض قيادات الـ CPSA اعتبرت أنه يجب على الحزب أن يصبح حزبا أفريقيًا مع قيادة سوداء بشكل أساسي وأنه يجب أن ينتظم حول المطالبة بجمهورية سوداء مستقلة، بمعنى آخر، أن النضال الرئيسي كان من أجل الاستقلال الوطني، بحيث يمكن لأغلبية الأفارقة أن تتحرر، وأن العمال البيض يجب أن يشاركوا في هذا النضال كمقدمة لأي نضال من أجل الاشتراكية. هذا التوجه المناهض للإمبريالية عارضته غالبية أعضاء CPSA الذين اعتقدوا أن النضال هو من أجل الاشتراكية وأن للعمال البيض دور مفتاحي. كان موقف الكومنترن مختلفًا تمامًا، حيث أكد على الطبيعة المناهضة للإمبريالية للنضال، مشيراً إلى أن غالبية العمال في جنوب أفريقيا هم من العمال السود وليس البيض. في النهاية، قبِلَ الـ CPSA التوجه السياسي الذي تبلور في نقاشاته مع قادة الكومنترن، وبحلول أواخر العشرينيات، كان القادة السوفييت يملون على الشيوعيين في أفريقيا وأجزاء أخرى من العالم المستعمَر وجهات نظر تقول بضرورة مرور جنوب أفريقيا (والمستعمرات الأخرى) أولاً بفترة من التطور الرأسمالي (وإن كانت "جمهورية يقودها السود"). أصبحت هذه الأطروحة أساسًا لتحالف طويل الأمد بين الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، تحت شعار استبدال نظام الفصل العنصري بحكم الأغلبية السوداء في جنوب أفريقيا. انتصر هذا الخطاب عندما أجريت أول انتخابات متعددة الأعراق في 1994. وعلى الرغم من استفادة عدد قليل من النخب السوداء بشكل كبير من هذا التحول على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، ازداد التفاوت الاقتصادي على أساس العرق في جنوب أفريقيا بشكل أعمق.

وعلى الرغم من تراجع دور الكومنترن، استمرّ ظهور حملات مهمة قادتها كوادر الحركة الشيوعية في القارة في الثلاثينيات. شهد عام 1935 بداية الحرب العالمية الثانية في أفريقيا وغزت إيطاليا أثيوبيا. أثار الاحتلال الوحشي الذي أودى بحياة مئات الآلاف من الإثيوبيين، على الفور، ردّة فعل دولية. انضم الشيوعيون من الولايات المتحدة وأوروبا إلى جهود التضامن جنبًا إلى جنب مع ناشطين آخرين من عموم أفريقيا ومناهضين للاستعمار والفاشية من هارلم إلى أكرا.  رفض عمال الرصيف في كيب تاون وديربان تحميل السفن بالطعام المخصص للجيش الإيطالي. جاء هذا الإجراء بعد مناشدة الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي لعمال الموانئ السّود لضرب الاحتلال الإيطالي في إثيوبيا لكونه عمل يصبّ في هدف ضرب حكم البيض في جنوب أفريقيا.

 في غانا، أنشأ كل من ITA Wallace-Johnson و Bankole Awooner-Renner، من أتباع الكومنترن الذين درسوا في موسكو ، رابطة شباب غرب أفريقيا (WAYL) في 1934. ونظّم والاس جونسون لجنة تضامن سكوتسبورو بويز  في أكرا. وفي 1935 ، نظّمت WAYL مظاهرة حاشدة من ألف شخص في أكرا ضد غزو إثيوبيا، وجمعت الأموال للمقاومة الإثيوبية، وتحدّى والاس جونسون القوانين الاستعمارية وكتب بغزارة عن جرائم الاستعمار الأوروبي، ما أدى إلى اعتقاله. وكانت لجان "ارفعوا أيديكم عن اثيوبيا" التي نظمها الشيوعيون، مثلها مثل أعمال التضامن مع فتيان سكوتسبورو، مثالاًُ مهماً لقدرة الحركة الشيوعية على تنظيم حملات عالمية على أساس مناهضة العنصرية والتضامن الأفريقي في الثلاثينيات.

في الفترة ما بين الحربين، مثّل الكومنترن الحركة الدولية الحقيقية الوحيدة التي كانت تحاول باستمرار ربط الراديكاليين السّود في أفريقيا بأولئك الذين يعيشون في الشتات الأفريقي. وعلى الرغم من التحديات التي واجهها الشيوعيون السّود – سواء أكان قمع الدولة أم عنصرية الرفاق البيض – لعبوا دورًا حاسمًا في زيادة المطالبة باستقلال أفريقيا داخل وخارج القارة الأفريقية.

بحلول منتصف الثلاثينيات، توقّع ستالين الحرب مع ألمانيا النازية، فسعى إلى التحالف مع الحكومتين الفرنسية والبريطانية باسم محاربة الفاشية. ولأن الكومنترن يخدم الآن الاحتياجات الدبلوماسية لستالين، فقد تم توجيه الأحزاب الشيوعية في فرنسا وبريطانيا العظمى وكذلك في إمبراطوريته لقمع مطالب الاستقلال في المستعمرات حتى لا يهينوا الحلفاء المحتملين للاتحاد السوفياتي. وفي 1939، عندما كان ستالين يخشى أن تكون المصالحة مع فرنسا وبريطانيا العظمى قضية خاسرة، وقّع فجأة على معاهدة عدم اعتداء مع ألمانيا النازية، مما أدى إلى اندلاع أزمة داخل حركة الشيوعية. وعندما هاجمت ألمانيا الاتحاد السوفيتي في عام 1941، عكس ستالين مواقفه مرة أخرى وانضم إلى الحلفاء. هذه المرة، قرّر ستالين حلّ الكومنترن (1943)، كبادرة مصالحة مع القوى الرأسمالية الكبرى. أدت نهاية الكومنترن والالتواءات والانعطافات السخيفة في سياسة ستالين الخارجية خلال الثلاثينيات إلى تخلي العديد من الناشطين السّود عن حركة الكومنترن وليس الفكر الماركسي. والأسوأ من ذلك، وقع البعض مثل لوفيت فورت وايتمان وربما ألبرت، ضحية عمليات التطهير المميتة التي نفّذها ستالين في خصومه في الاتحاد السوفيتي.

جيل جديد

الدور المهم الذي لعبه الشيوعيون والماركسيون الآخرون في محاربة الفاشية والنازية أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، والانتفاضات الشعبية المتلاحقة للحركات الشيوعية الثورية حول العالم، جذبت انتباه جيل جديد من الراديكاليين الأفارقة مثل نكروما، لومومبا، فليكس هوفيه، كابرال وغيرهم. فخضعت حركة البان آفريكانيزم لإعادة تنظيم. واحتفظ كثر من أعضائها بالتزامهم بالماركسية، ولكن مع تركيز أكبر على بناء حركات مناهضة للاستعمار في أفريقيا بدلاً من السعي وراء تحالفات مع الحركة الاشتراكية الأوروبية. أسس هذا التحوّل لقيام حركات جديدة نشأت ونمت مع بداية الحرب الباردة وبفضل النضج المتزايد لحركات التحرر الأفريقية.

في الصورة: لامين سنغور في المؤتمر الدولي لمناهضة الإمبريالية والاضطهاد الاستعماري، بروكسل، 1927

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button