كان كوامي توري، الناشط السياسي الداعي إلى الوحدة الأفريقية، يؤكد دائماً على أن النضال ضد الاضطهاد والاستغلال يجب أن يشمل جميع طبقات المظلومين والمضطهدين، بما فيهم المثليين والعابرين والمتحولين الذين يعتبرون فئات هُمّشت بناء على موقعها الجنسي الخاضع تاريخياً للسلطة الرأسمالية البطريركية. وعندما نادى بالعدالة من أجل المثليين والعابرين، لم ينطلق توري، ذو الأصول الكاريبية والذي يحمل الجنسية الأميركية (حيث كان بدايةً عضواً في حزب الفهود السود)، فقط من تجربته الشخصية أو من خلفية ماركسية أوروبية فحسب، بل عبّر عن توجه طبيعي في المجتمعات الأفريقية. وبين العالم الرأسمالي الجديد، والمستعمرات القديمة، الجلّاد واحد. 

قصة ماري

عاشت ماري جونز (وُلدت "بيتر سيوالي")، وهي امرأة متحوّلة جنسياً وعاملة جنس سوداء، في مدينة نيويورك في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكرّست حياتها للدفاع عن السود من خلال سلب المال من الأغنياء البيض وتوزيعها على الفقراء والمحتاجين. 

ولدت ماري في مدينة نيويورك في 1803 وعاشت طفولة صعبة خلال حقبة اتّسمت بالانتهاكات الجسدية والجنسية التي استهدفت السود. حاولت ماري أن تدخل المدرسة لكن ذلك كان مستحيلاًَ بسبب الفصل العنصري. كانت ماري توقّع برسم علامة "x”.  كأي شخص اسود بالغ، أجبرت على الخدمة في الجيش الأميركي لكنها هربت وأمضت بعض الوقت في نيو أورلينز قبل أن تعود إلى مسقط رأسها.

في تلك الفترة، تأثرت ماري بقصة بيت ودينا، وهما مراهقتان استُعبدتا من قبل عائلة إقطاعية بيضاء. فقامتا في 17 نوفمبر 1793 بإشعال النيران في منازل العشرات من مالكي العبيد في مقاطعة ألباني، بنيويورك ردًّا على سوء المعاملة التي يتلقاها السود. 

كانت ماري ترتدي ملابس نسائية طوال الوقت، فتتم مهاجمتها بالسباب والاعتداء بسبب لباسها ولونها وهويتها الجندرية، من هنا أدركت أنها تواجه في نيو اورلينز أشكالًا متعددة من الاضطهاد المركّب في آن معاً، فقررت العودة الى نيويورك لتمارس نوع من الانتقام من خلال عملها في الجنس. كانت ترتدي في النهار بدلة وتعمل كنادلة وطاهية، وبعد غروب الشمس، تتحوّل إلى عاملة جنس تصطاد أغنياء البيض لتسرقهم وتوزع الأموال على الفقراء من السود. 

في أحد الأيام، اكتشف أحد الأثرياء من البيض أن خزنته سُرقت، لكنه لم يرغب بالتبليغ عن السرقة خوفًا من كشف أنه رجل أبيض على علاقة جنسية مع شخص أسود، لكن زوجته أبلغت الشرطة وكُشف أمره، واستطاع ضابط شرطة الإيقاع بماري واعتقالها. وعند تفتيشها، اكتشف أن ماري متحولة جنسياً.

أثناء محاكمتها في 16 يونيو 1836، مثُلت ماري مرتدية فستاناً وشعراً مستعاراً وأقراط بيضاء. بدأ الجمهور يسخر منها ويوجه لها أبشع الشتائم العنصرية. أحدهم أمسك بجسدها، وآخر سحب شعرها المستعار، ثم سألها القاضي عن قرارها ارتداء الزي النسائي فأجابت "هذا مصيري واختياري ولا شأن لأحد فيه". حكم عليها القاضي بالسجن لمدة خمس سنوات ومنعِها من ارتداء ملابس نسائية.

جذبت محاكمة ماري اهتماماً واسعاً في وسائل الإعلام، ما أدى إلى ظهور العديد من التقارير المثيرة في الصحف، ولكن أغلب تلك التقارير ركّزت على ملابس ماري وشكلها الأنثوي، فتحوّلت قصتها إلى سلعة حتى انتشرت صورها وعرضت للبيع لسنوات عديدة. أمضت ماري جونز بقية حياتها تحت مراقبة الشرطة والمراسلين وعامة الناس. تم القبض عليها مرات عدة واستمر البيض في الإبلاغ عنها بسبب رفضها الالتزام بقرار المحكمة بعدم ارتداء ملابس نسائية. 

تكشف تجربة ماري عن بعض الحقائق المهمة عن حياة النساء المتحولات جنسيًا من السود في أوائل القرن التاسع عشر في ظل النظام الاستعماري خاصة في مدن اوروبا ومستعمراتها وفي أميركا الشمالية. حياة ماري مثال عن تجارب النساء السود المتحولات جنسياً والتجريم الشديد الذي تعرّضن له بسبب عرقهن وجنسهن ومنزلتهن في أسفل السلّم الطبقي. ومع ذلك، تطرح هذه الحقائق تساؤلات مهمة. لماذا ركّز البيض على النساء السود المتحولات جنسيًا مثل ماري؟ ولماذا تم التعامل مع الشكل (فستانها) على أنه جريمة أكثر من قضيّة السرقة؟ والحقيقة هي أن التنظيم الممنهج للهويات الجنسية والجندرية هي في صلب عملية الاستعمار الرأسمالي البطريركي المبني على الاستغلال. 

مجتمعات ما قبل الاستعمار: حرّية وتعدّدية

‏ليس صحيحًا أن المجتمعات الأفريقية عبر التاريخ ربطت المرأة دائماً بأعمال تحضير الطعام وتربية الأطفال، ولم تكن وظيفة الرجل محصورة دائماً بخوض الحروب، كما أن رهاب المثلية لم يكن ظاهرة موغلة منذ القدم في أفريقيا. تظهر الدراسات التي استعرضت الحقبة الكولونيالية بتمعّن كيفية تدمير الاستعمار للبنى الاجتماعية والديناميات الخاصة بكل منطقة جغرافية، وكيف استطاعت القوى الوافدة من الخارج عبر تاريخ طويل من الهدم والتهميش فرض هيمنتها على شعوب القارة لتفضيل الغيرية الجنسية (Heterosexuality) على المثلية الجنسية Homosexuality))

‏قبل استيلاء المستعمر على أفريقيا، لم تكن مجتمعات كثيرة تؤمن بأفكار ثابتة تحدد الدور الذي يلعبه جنس الفرد في المجتمع، كما لم تكن لدى تلك المجتمعات أي قواعد تحدّد ما إذا كان فردًا من أفراد القبيلة "طبيعيًّا". ‏قيمة الإنسان في ثقافات المجتمعات الأفريقية القديمة كانت تحدد بقدر مساهمة الفرد في الصالح العام للقبيلة، ولا علاقة لذلك على الإطلاق بكونه ذكرًا أم أنثى أم غيرهما، فالأجناس كلها تزرع وترعى الماشية وتحفر الآبار وتخرج إلى الحرب كما أن الآباء لم يكونوا يعلّمون أولادهم أن هذا يصلح للصبية وذاك للفتيات.

‏لم تتوفر في العديد من المجتمعات الافريقية أي قواعد "جندرية" يتعين على الرجال والنساء الالتزام بها كي يُعتبروا "طبيعيين". فمفاهيم الأنوثة والذكورة جاءت مع المستوطن الأوروبي، وصارت شكلًا من العنف المؤسساتي المرتبط بفكرة سيادة الأبيض على معتقدات السكان المحليين واستعمار أجسادهم. ‏كان العديد من القبائل والمجتمعات في أفريقيا تعلي من شأن المثليين، باعتبارأنهم يملكون هبة مميزة من الطبيعة، تسمح لهم برؤية العالم بعيون الجنسين.

في شرق إفريقيا في فترة ما قبل الاستعمار، وثّق المؤرخون حالات لكهنة ذكور مثل الموغاويه mugawe في كينيا، كانوا يرتدون الملابس النسائية ويمارسون حياتهم الجنسية بحرّية. وتحدّث المؤرخ "دونالد وليام" عن فئة صغيرة معروفة باسم "إكيهندو" (ikihindu) تعيش بين شعوب الهوتو والتوتسي في بوروندي ورواندا، كان الرجال فيها يرتدون ملابس مثل النساء، ويرعون منازلهم، ويمارسون حياتهم الجنسية بحرّية وكان الملك يؤمن لهم الحماية من بطش إرساليات المستعمِر التبشيرية.

و‏في مونوموتابا (Monomotapa) المملكة الافريقية التي امتدت بين نهر زيمبيزي وليمبوبو في أفريقيا الجنوبية، كان يسمح للمرأة بأن تتزوج من امرأة أخرى، وعادة ما ساعدت هذه الزيجات النساء الأرامل اللواتي رفضن الزواج من رجل آخر أو العودة إلى عائلاتهن أو الانتقال إلى عائلة الزوج المتوفّي. تستطيع الأرملة في هذه العلاقة أن تقوم بدور الزوج وتحافظ على ميراث ونسب الأسرة. ويمكن لرجل آخر أن يقوم بتخصيب زوجة الأرملة، لكن لن يكون له حق في الطفل المولود. وكان يعني ذلك بأن للمرأة الحق في الإنجاب من دون أن تتزوج رجلاً. 

الديانات الافريقية المحلية، على عكس باقي الديانات، تعاملت مع المثلية معاملة طبيعية، ورأت في التحول الجنسي محاولة للوصول للكمال، ولذلك، كان بعض الآلهة في الميثولوجيات الأفريقية يولدون رجالًا ويتحولون في ولادة روحية جديدة إلى نساء، والعكس، ‏إيمانًا بأن الجمع بين القوّتين في جسد واحد هدفه الوصول إلى الكمال.

النمطية والتمييز سمة المُستعمِر

على مدى قرون، ‏عمل المحتل على الترويج لثقافته ومعتقداته من خلال مؤسساته الاجتماعية. كان الهدف من ذلك بناء مجتمعات مستلِبة خاضعة للمستعمِر، وإرساء ثقافته بشكل دائم، وفرضها على أهل الأرض. وبالفعل نشأت مؤسسات اجتماعية نجحت في محو الثقافة الأفريقية إلى مدى بعيد، ولو بنسب متفاوتة، بالعنف والاستيعاب القسري والتهميش. هاجمت ثقافة المستعمر كل ما له علاقة بالتعددية الجنسية، وفرضت على أهل الأرض أسلوب حياة ضمن حدود ما يقرره المستعمِر للذكر والأنثى، وذلك بفضل تعالي مؤسساتهم الدينية، وهو ما وضع المثليين أيضاً أمام خيارين: إمّا التواري عن الأنظار وإخفاء هويتهم، وإما تبنّي هوية المستعمِر. 

وهكذا، كانت ‏العرائض القانونية المعلقة في محاكم شرق وغرب القارة، المتعلقة بتجريم المثلية الجنسية، نابعة من القانون الذي أصدره الاحتلال البريطاني عام 1860 والذي ينص على تجريم المثلية الجنسية ووضعها في مرتبة "الأفعال الجنسية التي تخل بنظام الطبيعة". وهكذا تحوّلت الموروثات الاستعمارية إلى حقائق علمية ومسلّمات تتبناها المجتمعات الأفريقية المستلبة، فتشجّع على ازدراء أي فرضيات مغايرة، واعتبارها مظاهر ثقافية خاطئة وبالية.

___________

مراجع :

"الاستعمار والمثلية" تأليف “روبرت الدريتش"
"الجنسانية الأفريقية" تأليف "سيلفيا تامالي"
"الاستعمار البريطاني وتجريم المثلية الجنسية" تأليف "إنزي هان وجوزيف أوماني"

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button