"أقف في تضامن عميق مع الفلسطينيين ولكن"... جملة مشتركة مع اختلاف الصياغة تكرّرت على لسان مفكرين يساريين أو سياسيين شاع توصيفهم بالتقدميين، ويُفتَرض أنهم أقرب إلى الشباب، مثل سلافوي جيجيك وبيرني ساندرز ونعوم تشومسكي وكورنيل ويست في مناسبات عدة في سياق التعليق على مسألة الحرب في فلسطين.
قبل 7 أكتوبر، كان التفاؤل بمواقف تلك الأسماء سِمّة الجوّ العام، إذ كانت تتقاطع اطلالاتهم الإعلامية مع توجهاتنا ومواقفنا الإنسانية والاجتماعية والسياسية على مر الأحداث المتتالية في العقدين الأخيرين. ومع بداية طوفان الأقصى، بدأت تتساقط هذه الأسماء تباعاَ وبنسب متفاوتة نتيجة ما رآه جمهور الشباب تخاذلاً وتراجعاً وهروباً من المواجهة. والواضح حتى الآن أن العامل الأساسي الذي ساهم بإسقاطهم هو شكل تضامنهم وموقفهم مما يحدث... أي الشروط التي وضعوها حتى يتمكنوا من إعلان تضامنهم، وهي شروط جعلت كثيرين يعيدون النظر في مواقفهم السابقة وما كان يصنّف "ثابتاً" و"من البديهيات".
كان لكل واحد من اولئك حدوده الخاصة وصيغته الفريدة لتضامنه وفقا لمحددين أساسيين هما المصلحة والتأثير، فمنهم من يرى مصالحه في إبقاء صوته وتضامنه ضمن حدود العودة الآمنة في حال عادت الظروف إلى ما سبق، وبهذه الحالة يمكن تعويض الخسائر، ومنهم من يرى مصلحته في التضامن اليوم قبل الغد من أجل تأمين رافعة لحملته الانتخابية وتوسيع قاعدته من الناخبين المحتملين. أما الخط الثالث، فيجد مصلحة في البقاء على الحياد الأكاديمي "الموضوعي" الذي لا يحتمل الإنزلاق في مسألة التضامن الإنساني ويتعامل مع "الموضوع"، من دون الإنحياز خوفًا من التأثير على المنهج العلمي البحثي.
ليس الهدف هنا الخوض في عملية تقييم مبنية على محدّدات قيَميّة، ولكن من المفيد تحليل كيفية بناء الموقف التضامني السائد حالياً ومحاولة فهمه وإسقاطه على أشكال تضامننا نحن، أي أبناء هذه البلاد. لا يمكن تجاهل عامل العُمر، أي الجيل الذي تنتمي إليه الأسماء المذكورة، ومعايشتهم أحداثًا عالمية وحراكات وثورات فكرية واجتماعية وتطورات علمية متشابهة، وربما من أهمها تيار الثقافة المضادة الذي مهد الطريق لرفض الحرب الأميركية على فييتنام. فكيف لمن انتمى، لفترة ما على الأقل، إلى نهج فكري تقدّمي أو أممي أن يعيد تعريف مفهوم التضامن ويضيف إليه شروط.
يكشف تفكيك هذه المحددات دورها في تحصيل رأس مال رمزي لصاحب فعل التضامن المشروط. يتزايد رأس المال هذا بشكل تراكمي خلال عملية تكريسه بشكل تصاعدي في مختلف الحقول السياسية والثقافية والأكاديمية والاجتماعية. ويزداد تأثير صاحب رأي المال مع اكتساب قاعدة جماهيرية أوسع والعكس صحيح. أما الأصوات المضادة أو المختلفة، فتتعرّض لعملية حصار وإقصاء تجعلها تفقد موقعها المكرّس سابقاً في مجالات وقطاعات معيّنة. تفرز عملية المقايضة هذه المحددات التي تتحكم في صياغة القيم والأخلاقيات وحدود التضامن في أوج الصراع الفكري والمادي.
ويمكن مقاربة أشكال تضامننا نحن إنطلاقاً من الأنساق والمحددات نفسها، فمِنا من يتضامن كشكل من أشكال الناشطيّة أو سعياً وراء الانتماء الإجتماعي والسياسي، إنطلاقاً من توجّه أممي أو قومي أو ديني أو كخليط من هذه الانتماءات. ومِنا من يتضامن إنطلاقاً من موقف إنساني وتعاطف نقي مع المقهورين في العالم. وهذا النمط يتبع محدّد التأثير أكثر من المصلحة بافتراض أن من يتعاطف بهذا الشكل يسعى لرؤية العالم بالشكل المثالي الطوباوي. ولكن الإشكالية تقع عندما تصطدم الطوباوية بالواقع، ويُطرح السؤال التالي: "التضامن مع… ولكن من أجل ماذا؟ (أي ما هو المسار)". وهناك نمط التضامن المتردّد أو المتقلّب المتماهي مع المناخ العام و"المسموح به" في الثقافة السائدة. ويتبع هذا النمط محدِّدُ "المصلحة" بشكل رئيسي من أجل الحفاظ على المكانة أو الموقع ومحاولة الخروج من الحدث لاحقاً بأقل الخسائر الممكنة.
وهناك من يتضامن بشكل انتهازي، وليس المقصود هنا المعنى السلبي المطلق للمصطلح، ويعتمد هذا النمط على المصلحة بجزئية كبيرة من فعل التضامن وكثيرًا ما نرى هذا النمط بشكل أوضح على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث تعمل حسابات على استثمار الحدث في بورصة المشاهدات والتفاعلات من خلال إنتاج ومشاركة محتوى تضامني ينتج عنه مدخول مادي لصاحب الحساب.
أما من يتضامن كفرض كفاية، فغالباً ما يتعرض لضغط أقرانه من أفراد أو مؤسسات ويشارك بالعملية حتى "ما يطلع بسواد الوج" مستقبلاً، أو بهدف التعويض عن مواقفه السابقة "غير الموفّقة" والتي من الممكن أنها كانت على نقيض الإنسانية، وكأن المتضامن يقول: لقد دفعت ضرائبي وأعلنت التضامن ولا يمكنكم مهاجمتي بعد الآن.
ومن الممكن أن تتقاطع ظروف أو دوافع أو أنساق التضامن التي عرضناها نتيجة تفاعل عوامل عدّة، ذاتية وموضوعية، يفرز منها في كل زمان ومكان أشكال جديدة من التضامن، مع تبدّل المتضامنين أو تغيّر وجوهم وتجعّد بشرتهم، كحال الشخصيات الذي أشرنا إليها في بداية النص.
قد يكون الثابت الوحيد والدافع المشترك لجميع هذه الأنماط هو الشعور بنوع من العجز أمام ما يحدث، فتتزايد محاولات التعبير بشتى الوسائل والطرق عن هذا الشعور حفاظاً على أنفسنا وعلى اتصالنا بالواقع.
ولكننا غالباً نملك الخيار، فنختار أشكال تضامننا ووجوهَه، ونرفض الاستسلام للتشاؤم واللامبالاة، ولذلك علينا أن نضع نصب أعيننا السبيل إلى إخراج فكرة التضامن من الحسابات والمزادات، من المكاسب والضمانات، من البورصة ورأس المال، وإعادتها إلى أصل المعنى المطلَق.
الحضارة يا جيفارا في المزاد
وانتَ صاحي
واللي بيزاود عليها الامريكان
اللي بيدلل عليها الامريكان
واللي عايز يشتريها الامريكان
وانت صاحي
وغزة صاحية من زمان
كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة