رحل ’’غي ديبور’’ عن هذا العالم منذ أكثر من ثلاثين عامًا، بعد أن أَودَعَ الكثيرَ من أفكاره التي تكشفُ زيف المجتمعات المعاصرة، وروحها الاستهلاكية، واستعراضاتها اللامتناهية، وكذبها المستمر، في ’’المانفيستو’’ الشّهير ’’مجتمع الفرجة’’. رحل بعد أن نبّهنا إلى أن ’’الاستعراض هو كابوس المجتمع الحديث المكبّل بالأغلال، والذي لا يعبّر في النهاية سوى عن رغبته في النوم. والاستعراض هو حارس هذا النُّعاس!’’.

ما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي يدعو، أكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة النظر في طبيعة العالم الذي نعيش فيه. كما يحثّنا على التساؤل والتشكيك في جوهر هذا العالم وموقعنا داخله، كاشفًا ضُعفنا وانخذالنا الجماعي حوله.

إبّان الفالنتاين السابق، تحوّلت صورة سيارة فاخرة إلى حدثٍ جماعي، باعتبارها هدية قدّمها أحدهم لشريكته—أو هكذا اعتقدنا جميعًا، على الأقل. صورة تداولها رواد هذه الفضاءات على نطاق واسع، فكشفَ هذا التداول الكثيف أن دورة الاستهلاك السنوية لازالت تُخلَّدُ كما يُخلّد القديسون والشُّهداء.  

تُعلّق إحداهن: ’’الله يْعطِينَا من زْهرْهــَا’ كتعبيرٍ تقليدي يتجاوز السرديات الشعبية الرمزية، ليغوص في عوالم الرغبة المُقلَّدة وآليات اشتغالها. وكتعطّشٍ نابع من الآخر عِوَض الذات، ينمو معه التلهّف والتنافس في نوعٍ من ’’التصعيد الحلزوني’’ الذي تُؤجّجه الصورة.. فكما غُلّفت السيارة بشريطٍ أحمر، لتُباع كحلم جاهز، يُعاد تغليف الحظ، ليُباع بالتقسيط. وهكذا، تنبثق الرغبة - لا في الحب، بل في التملّك، في الحلم بأن نكون في مكان الشريكة التي تلقت الهدية، وفي امتلاك ولو النَّزر القليل من حظّها.

إننا، إذن، أمام احتلالٍ كاملٍ للحياة الاجتماعية من قِبَل قوى الاقتصاد السلعي، لم نعد نملك أمامها رفاهية الفعل أو القدرة على صرف أنظارنا بعيدًا عنها. بل أصبح لزامًا علينا، في أعقاب هذه الواقعة، أن نعترف بأن مجتمع الاستعراض لم يتوقف يومًا عن مواصلة مسيرته—بل على العكس، بات أحد أكثر القوى دفعًا لعجلة التاريخ.

إن العقد الذي نعيشه لم يكن ليحمل أي مفاجآت بالنسبة لــــ’’دِيبور’’ فميراثه ونبوءاته حاضرة أكثر من أي وقت مضى. ومن هنا تبرز الحاجة إلى إعادة استنبات أفكاره، على الأقل في سعينا لفهم هذا الإخضاع وهذا التورّط. صحيحٌ أن السيارة الملفوفة بشريطٍ أحمر، والتي أُرسلت عمداً لتجوب شوارع المدينة، لم تكُن هدية حبّ كما زُعم، بل حيلةٌ تسويقية من شركة سياراتٍ معروفة لتعزيز علامتها التجارية في السوق. لكن المشكلة هنا لا تكمن في ما نراه، بل في ما لم نعد قادرين على رؤيته-أَوهَامَنَا الجَمَاعِية- تلك التي تبدأ بصُدفٍ بسيطة ثم تتناسلُ خِلسة منّا.

أبشع ما في الأمر هو أن نقتفي هذا الجنون حتى نهايته، وأن نقف متفرّجين أمام الرّغبات الملغومة التي تضخها فينا هذه القِوى، دون مقاومة أو فِعل، وإن كانت الرأسمالية أعادت تعريف معنى ’’الفِعل’’ نفسه، وحصرته في الاختيار، لاَ في مُساءلة من يضع هذه الاختيارات أمامنا أصلاً.

كيف يُفترض بنا أن نكافح ضد هذه الرغبات إذن؟ يقترح ’مارك ’فيشر’’ بأن نقابلها برغبات مُضادة، ’’والإسراع إلى ما وراء اللذة، إلى ما وراء ثقافتنا في الاسترجاع والتقليد، إلى ما وراء الفصل المستمرّ لوعي الجماعة، وراء الواقعية الرأسمالية’’، التي تقدّم نفسها على أنها الحالة الطبيعية الوحيدة الممكنة، باعتبارها الأفق النهائي للبشرية، والقَدَر الذي لا يُرَدّ.

ما بعد الرأسمالية هي فرصة للتفكير بروح انتصارية، والإيمان بوجود بديل ما، من خلال العمل على إعادة توجيه مسار التاريخ من داخل النظام نفسه، لا من خارجه، عبر السعي إلى تشكيل ظروف جديدة تعزز وعياً مختلفاً لفهم واقعنا المعاصر، أي قراءة جديدة للأحداث، تنطلق من يقظة نقدية تجاه كل ما يبدو مألوفاً، بدءًا من أحوال الطقس وصولاً إلى التناقضات الكبرى في العالم. وتنبع هذه القراءة من تجاوز فكرة الواقع نفسه والتشكيك فيه، وتحرير الخيال السياسي من قبضته، مما يجعل التفكير في البدائل أمراً ممكناً.

ينطبق هذا المبدأ أيضاً على موجة التغيير المُعلّب، التي تقدّم الثقافة المضادة كماركة تجارية، تماماً كما قُدّم عقد الستينيات بموسيقاه وحركاته التحررية والثقافية المشككة في الواقع كـ"ستايل" و"موضة"، مما أدى إلى استنزاف تلك اللحظة التاريخية بتمرّدها الشبابي. وهذا هو طموح "شيوعية حبوب الهلوسة" كمشروع إيجابي، يفتح آفاقاً لتصور عالم يتجاوز الاستغلال الاقتصادي، والتقسيم الاجتماعي، وصباحات الإثنين البائسة.

"شيوعية حبوب الهلوسة" ليست تحريضاً على تعاطي المخدرات بالفهم الهيبّـيزي، أو الانغماس في سيناريوهاتٍ من الاستسلام السلبي، قوامها التخدير، والعزلة، والانتشاء الزائف، لأن ذلك لا يعدو كونه امتداداً غير مباشر لعمل الرأسمالية نفسها. بل هو دعوة إلى ابتكار شكل من الخيال الجماعي خارج القيود الثقافية والنفسية التي تفرضها المنظومة القائمة، والتي تجعل الأفراد عاجزين عن تخيّل أي شيء خارجها، أو تصور عالم أكثر حرية يتجاوز حدود السوق والاستهلاك.

تشويش المسار، وليس مجرد رفضه… إعادة توجيه المسارات النفسية التي يُراد لنا أن نسلكها، لأن هناك دائماً هامشاً لمقاومة الابتلاع ومساءلة النظام من الداخل. إعادة تعريف الأشياء في 2025 بطرق لا تخدمها بالضرورة، حتى وإن كانت هذه الأشياء قد تسللت تحت جلدنا. 

نعم، الرأسمالية بارعة في الاستيلاء على أي رغبة في تجاوزها، تلتهمها وتعيد تدويرها داخل النظام نفسه، بحيث لا يعود هناك شيء "خارج" الواقعية الرأسمالية، بل مجرد تحديثات مستمرة داخلها. لكن رغم ذلك، لا ينبغي أن نسمح لرغبتنا في "ما بعد الرأسمالية" بأن تُباع لنا كسلعة أخرى أو تُختزل في "تراند" جديد. علينا أن نخلق رغبات لا يمكن للسوق تحويلها إلى منتجات، كأن نحبّ بلا وسيط رأسمالي.

 هل نحن مُحاصرون؟ نعم.. هل انتهينا؟ لـا..

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button