بيني وبين شارع بلِس في بيروت علاقة ملتبسة. علاقة انجذاب ونفور، بقيت تلازمني لسنوات، كانت تنتابني فيها مشاعر غامضة من الإحباط، لكن أسبابها كانت واضحة جداً بالنسبة لي، تتمثل في السور الحجري المرتفع الممتد على طول الشارع تقريباً، لجهة البحر، والذي تقع خلفه الجامعة الأميركية في بيروت، بمبانيها ومساحاتها الخضراء وملاعبها ومساكن طلابها، وأشجارها الباسقة المعمرة.

عالم كامل كان بالنسبة لي بعيد المنال، أنا الذي أنتمي إلى ما يطلقون عليه "عائلة مستورة"، جاءت إلى بيروت من قرية جبلية، كعائلات كثيرة، لافتقار الأطراف آنذاك إلى المدارس الثانوية والجامعات. وعندما نجحت في امتحانات الشهادة الثانوية بعد ثلاث سنوات من وجودي في بيروت، كان مجرد التفكير بالجامعة الأميركية غير وارد على الإطلاق. فدخول الجامعة الأميركية يستلزم توفير أقساط الدراسة فيها، وهي عشرات الآلاف من الدولارات لم تكن متوفرة، كما يستلزم إجادة اللغة الإنكليزية التي لم أكن أجيدها (وما زلت). فأنا تخرجت في مدرسة ثانوية تعلم اللغة الفرنسية كلغة أجنبية، وكانت حصيلتي منها هزيلة هي الأخرى.

ولست أذكر بالتحديد المرة الأولى التي وطأت فيها شارع بلس، المحاذي للجامعة الأميركية. لكنني أذكر بالتأكيد مشاهداتي ومشاعري عندما كنت أقترب من بوابتها الرئيسية (ماين غايت). كنت أرى شباناً وشابات كان يتهيأ لي أنهم سعداء طوال الوقت، يرتدون ملابس تضفي عليهم هيئة تذكر بما نراه في أفلام أميركية. شبان وشابات يتحركون بخفة، بلا جهد كبير، وكأن أقدامهم تلامس الأرض مجرد ملامسة. كنت أتخيل أن خلف السور الطويل المرتفع عالماً من الجد، يتلقى فيه الطلاب أحدث ما توصل إليه العلم، ويجري إعدادهم لمستقبل ناجح ومضمون. شبان وشابات محظوظون بوجودهم هنا.

خفف من إحباطي لاحقاً نجاحي في امتحانات الدخول إلى كلية التربية في الجامعة اللبنانية، وهي الكلية الوحيدة في تلك الجامعة التي تشترط امتحاناً لدخولها، ويتقاضى طلابها منحة شهرية طوال خمس سنوات، ولذا اعتبرت، عن حق أو باطل، كلية النخبة في الجامعة اللبنانية. كانت سنوات السبعينات الأولى، قبيل الحرب الأهلية المشؤومة، سنوات غليان للحركة الطلابية. كن نريد تغيير البلاد إلى الأفضل، وإن أمكن تحرير العالم العربي برمته، لا بل تغيير العالم. وتصدر طلاب الجامعة اللبنانية، لا سيما طلاب كلية التربية، تلك المهمات الجسيمة، وامتد الغليان إلى سائر الجامعات ومنها الجامعة الأميركية.

كنا نتظاهر من أجل كل شيء: القضايا الطلابية طبعاً، لكن القومية أيضاً والأممية والعمالية والسياسية. لم يكن مهماً أن تعنينا هذه القضايا مباشرة. كنا نعتبر أننا معنيون بكل شيء.

وفي ربيع العام 1974، أعلنت إدارة الجامعة الأميركية رفعَ أقساط الدراسة، الأمر الذي استفز طلابها ودفعهم على الإضراب. وتطور الأمر إلى تظاهر الطلاب واعتصامهم داخل الجامعة وتعطيل الدراسة فيها، ما دفع الإدارة إلى الاستعانة بقوى الأمن لقمع حركة الاحتجاج بالقوة. فحصلت مواجهات وأعمال عنف وتكسير، اتخذت الإدارة إثرها قراراً بطرد عشرات الطلاب ومنعهم من دخول الجامعة، وكُلف حرس الجامعة بتنفيذ قرار المنع، الذي كان القشة التي قصمت ظهر بعيرنا، نحن في الحركة الطلابية من خارج الجامعة، باعتبارنا معنيين بكل شيء، فما بالك وأن الأمر يتعلق بزملاء لنا في إحدى الجامعات بلبنان؟

تشاور المطرودون والمضربون في الجامعة الأميركية، واستقر الرأي على اقتحام الجامعة واحتلالها لإرغام الإدارة على التراجع عن قرارها.

ولم يكن ممكناً تنفيذ الاقتحام من قبل طلاب الجامعة الأميركية أنفسهم، لأن حرس الجامعة يعرفونهم. لذا كان ضرورياً الاستعانة بـ"كوماندوس" من الطلاب من خارج الجامعة.

ولست أدري من الذي اقترح اسمي لأكون ضمن فريق الاقتحام. ما أذكره أنني لم أتردد عندما فوتحتُ بالأمر.

رُسمت خطة تفصيلية بالعملية، قضت بتنفيذها في السادسة صباحاً، وتقرر أن أتولى مع رفيق آخر الإمساك بأحد حراس البوابة الفرعية التي تقرر اقتحامها والدخول منها، وتحييده، فيما كان فريق آخر يقوم في اللحظة نفسها بالإمساك بحارس آخر لبوابة مقابلة، وفريق ثالث يتولى قطع خطوط الهاتف على البوابتين لمنع وصول أي تحذير للحرس المنتشر داخل الجامعة. 

قمنا بالمهمة بسرعة خلال دقائق معدودة وبسلاسة أعاننا عليها عنصر المفاجأة في ذلك الوقت المبكر، وأرسلنا إشارة إلى جمهور الطلاب المطرودين الذين كانوا قد قضوا ليلتهم في شقق قريبة من الجامعة، فتدفقوا بسرعة من البوابة التي سيطرنا عليها. ولأننا من خارج الجامعة، كان علينا تسليم البوابة المحررة والانسحاب باتجاه البحر بعيداً عن الجامعة، التي عدنا إليها في الأيام التي أعقبت"تحريرها"، وسيطرة طلابها عليها، لنتجول في أرجائها كما لو أننا نتجول في بلاد افتتحناها.

الآن، بعد مضي عشرات السنين على تلك الفعلة، وبعد مرور مياه كثيرة تحت جسور العمر، أتساءل: هل كان ما شاركت فيه أمراً جيداً وضرورياً؟

يدفعني إلى هذا التساؤل تفكيري بأن  الهدف من مشاركتي في تلك الواقعة كان في الواقع الدفاع عن مصلحة طلاب هم في الحقيقة أبناء طبقة ميسورة جداً، وبإمكانهم تحمل زيادة بضع مئات من الدولارات على أقساطهم لن تكسر ميزانيات عائلاتهم المرفهة في غالبيتها.

لكن تفكيرنا في ذلك الوقت كانت تمليه علينا اعتبارات أخرى. فالأولوية كانت للتضامن الذي جعلنا نؤمن بأن أي ضرر يمس فئة من الطلاب يمس كل الجسم الطالبي. كنا نعتقد أن الواحد للكل والكل للواحد، وأن هدف التغيير يتجاوز الاعتبارات الفئوية الضيقة.

لكنني إذ أستعيد ما حدث، فإنني لا أخفي أنني فوجئت إذ علمت من أحد الأصدقاء أن واقعة احتلال الجامعة الأميركية التي شاركت فيها أثارت أزمة كان لها أبعاد دبلوماسية ودولية ومداولات وصلت إلى أعلى دوائر الحكم في أكثر من بلد، كان الهدف منها إيجاد تمويل للجامعة الأميركية يتيح لها عدم الوقوع مستقبلاً في عجز يجبرها على زيادة الأقساط ويوفر عليها أزمات كالأزمة التي أدت إلى احتلالها من قبل طلابها.

أعود وأتساءل: هل كان ما شاركت فيه أمراً جيداً وضرورياً؟

يبقى أن أقول إن علاقتي الملتبسة بشارع بلس صارت من الماضي، وانتهت تماماً عندما أرسلت ولديَّ للدراسة في الجامعة الأميركية، وحضرتُ حفل تخرجهما في ملعبها الأخضر الشاسع. 
_________

من تحقيق:

Enemy at the Main gate: The story of the AUB student occupation of 1974 told through the lens of US diplomatic cables

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button