"Riders on the storm
Into this house we're born
Into this world we're thrown
Like a dog without a bone
An actor out alone"

The Doors - 1971

"من على صهوة العاصفة
في هذا المنزل ولدنا
في هذا العالم قُذِفنا
مثل كلب بلا عظْمة
ممثّلٌ بانَ وحده"

***

أثناء عمليّة الولادة، يتكفّل الرحم بقذف الجنين إلى الدنيا. وعمل الرحم اللاإرادي يجعل العمليّة خارجةً عن إرادة المرأة الحامل. ويخرج الجنين وعليه آثار معركةٍ ليصبح مولودًا، ومعه تتحوّل الحامِلُ إلى والدة. وطوال مدّة هذا التحوّل، تتلبّسها رغبةٌ شرسةٌ لا معقولة في التخلّص من جنينها، حتّى تسمع صرخته الأولى فيعود إليها حنانها ورشدها.

ويُعَدّ الصراخ دليلًا دامغًا على أنّ إنسانًا حضر إلى الدنيا، قبل الاسم والحسب والنسب والعائلة والدين والبيئة والبلد… والكوكب. والإنسان لا يحضر إلى الدنيا بملء خاطره بل "انقذافًا". وتكون ولادته حتميّةً بفضل استحالتين: الأولى، استحالة البقاء داخل آلة التكوين والتوليد (أي الرحم). والثانية، استحالة رفض المجيء لاقترانه بقرار العودة (إلى أين؟)

ومن هنا، تنشأ حالة من اللامعقول بين عبثيّة الحياة الّتي تبدأ بالولادة، وعبثيّة المسرح الّتي تبدأ ما أن تنجذب حواسّ المتلقّي إلى حيّز العرض. وتنطوي العبثيّتان على تعارضٍ وتلاق. فالمسرح العبثيّ "لا يقوم على نقل المعلومات أو استعراض مشاكل الشخصيّات ومصائرها. فهو لا يحاكي الواقع، أي لا يتّفق مع توصيف أرسطو للمسرح. إنّه يقدّم الحالة الجوهريّة الخاصّة لفردٍ عالقٍ في دبق عبثيّة العالم"، بحسب أستاذ الدراما البريطانيّ مارتن إسلين. وعليه، فإنّ العبثيّة في الواقع هي الحياة نفسها، والعبثيّة في المسرح هي في المتلقّي الّذي يجب أن تلتقط حواسّه محتوى "لا غرض له ولا هدف ولا غاية"، وهو تعريف يوجين يونيسكو للعبث، من خلال مواقف خالية من أيّ منطقٍ ومعنى محدّدٍ مسبقًا. وقد ساهمت كتاباته مع كتابات ألبير كامو وجان پول سارتر وصموئيل بيكيت وأرتور أداموف في نشوء التيّار العبثيّ في الأدب.

تعود جذور المسرح العبثيّ إلى الكاتب الفرنسيّ ألفرد جاري ومسرحيّته "أوبو ملكًا" (1896) الّتي تُعَدّ بادئة هذا التيّار.

فقد خلق فيها جاري كونًا سخيفًا يكتنف شخصيّاتٍ وأماكنَ وأفعالًا مفكّكة لا معنى لها، وغالبًا ما توقع المتلقّي في حيرةٍ لا ترسو فيها بوصلته على اتّجاه. غير أنّ هذه الميّزات، الّتي تتمتّع بها الشخصيّات والمواقف والأماكن، تظهّر التأثير الكوميديّ للمسرحيّة. فالملك أوبو يثير ضحك متلقّيه، تحديدًا بسبب غباء شخصيّاته وبفضل المواقف اللامعقولة في المسرحيّة.

شاع المسرح العبثيّ في أوروبا عقب الحرب العالميّة الثانية. فبسببِ عبثيّة العالم آنذاك، أصيب الكتّاب بحال جمود وانتظار يائس (كما في "انتظار غودو" و"الكراسي" ليونيسكو). وفقدوا كل قناعة بالأشكال الدرامية الّتي كانت شائعة في تلك الحقبة وكانت ترتكز على أسس واقعية.

لذا ومثلما بدأ مع جاري، يهاجم المسرح العبثيّ الحقائق المريحة للعقائد الدينيّة والسياسيّة، ليضع المتلقّين وجهًا لوجهٍ مع الحقائق القاسية للحالة الإنسانيّة كما يراها هؤلاء الكتّاب، وليس لدفع جمهورهم إلى اليأس، إنّما لكي يقبل هذه الحالة بكلّ أسرارها وعبثيّتها، لأنّ الإنسان في نهاية المطاف يقف وحده في عالم لا معنى له. فقد يكون تخلّيه عن الحلول السهلة الواهمة أليمًا، ولكنّه يخلّف شعورًا بالحرّية والراحة. وهو السبب في أنّ مسرح العبث لا يُسيل دموع اليأس، إنّما يثير الضحك الّذي يحرر الإنسان.

في 1957، كتب بيكيت "مشهد من دون كلام 1"، وهو فصل مسرحيٌّ إيمائيٌّ قصيرٌ ينطوي على أمثولة الولادة والتطوّر والحياة. وفيه، ينقذف رجل في حيّزٍ صحراويٍّ قاحلٍ تضربه شمس حارقة، لينفّذ على الفور محاولات متتالية للعودة من حيث أتى. وما إن يستسلم لعجزه عن ذلك حتّى يبدأ الحيّز باستدراجه إلى التصرف عبر أغراض تهبط عليه من فوق وتوهمه باحتمالات جديدة للوجود. وتعتريه مشاعر متضاربة تواكب ظهور الأغراض (صناديق وحبل ومقص) الّتي كان يستخدمها لكي يطال ابريق ماء معلّقًا فوقه. ثم تضخّمت رغبته في الاستئثار بالإبريق الّذي كان يُسحب بعيداً عن متناوله كلّما كان يكاد أن يُمسك به.

وبعد فشله في نيل مراده، سُحبت الأغراض واختفت، واستسلم هو لليأس والقيظ، حتى أن إبريق الماء يمرّ بمحاذاة وجهه لكنّ الرجل لا يلمسه، لا بل ويشيح بوجهه عنه. منهم ممن يرى في تلك اللقطة الأخيرة يأسًا وانتحارًا، ومنهم من يرى فيها تمرّدًا ورفضًا للواقع.

"الانقذاف"، بالإنكليزية Thrownness (وبالألمانية Geworfenheit)، كلمة تعبّر عن مفهوم وضعه الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر (1889 - 1976) واستخدمه ليصف به حالات الوجود الفردية للبشر بأنهم انقذفوا إلى العالم.

وثمة تقاطعات بين الولادة الطبيعية والولادة العبثيّة عند بيكيت. وأهمّها حالة الانقذاف. فتلك الشخصية انقذقت إلى الحيّز القاحل، مثلما ينقذف الجنين من داخل الرحم. ولأن سبب "انقذاف" الرجل (الممثل) بقي مجهولًا في مشهد بيكيت، أهم أشخاص آخرون يدفعونه أم هي ظروف أم عثرات أم أنه القَدَر، جاءت محاولاته المتكررة للعودة من حيث أتى، لتخفّف من عبثيّة "ولادته" المُمَسرحة، مقابل ثقل الولادة الطبيعيّة ووطأتها على الإنسان. فأيّهما أكثر عبثيّةً؟ بيكيت منح الشخصيّة فرصًا للعودة، لا تمنحها الحياة لأيٍّ كان. الحياة تبدأ وتنتهي، يليها العدم مثلما سبقها.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button