"هل تتذكّر من كنتَ قبل أن يقولَ لك العالمُ من يجب تكون؟"

- تشارلز بوكوفسكي

إذا نجحتُ في كتابة هذا النص، أكون تغيّرتُ تمامًا عمّن كنتُ. والـ "إذا"  ترمز إليّ أنا حاليًا لأني أطرحها كثيراً على نفسي عند مواجهة مسائل الحياة وصوغ الفرضيات لمعالجتها وحلّها. وتليها "إذَنْ" لصوغ الاستنتاجات، كما في المعادلة التالية: "إذا أنا طفلٌ أبتلع الماء في حوض، إذَنْ أنا أغرق". وهذه المعادلة بالذات هي من بين معادلات "فرضية واستنتاج" كثيرة في حياتي، صغتها للمرة الأولى عندما أخبَروني بأني تعرّضتُ لحادثة مماثلة وأنا رضيع عمري بضعة أيام.

الحادثة مرّت على خير ونجوت، كما اعتقد العالم. لكنها كرّست لجوئي إلى منهج التفكير الحذِر هذا (إذا - إذن)، كلّما واجهتُ أمرًا في حياتي. ثم دفعتني أيضًا إلى الاجتهاد واستباق وجود استنتاجات أخرى: "إذا أنا طفل ابتلع الماء في حوض، إذَنْ أنا أغرق، وإلاّ يكون أنقذني أحدهم". ومن شأن "وإلّا" استدعاء الاحتمال التالي، وهكذا دواليك…

غير أن البشر لا يعملون وفقًا لهذه المعادلة المعقّدة، إنما برمجيات الحواسيب. وهذه المعادلة هي أحد روتينات (أوامر) البرمجة وتُعرف بـ if-then-else (إذا - إذَنْ - وإلاّ)، ويفسّرها الآتي: "إذا كنتَ تحمل نقودًا، إذًنْ اشترِ علبة شوكولا نوتيللا، وإلّا فلا تعدْ إلى البيت".

إذَنْ، أنا برنامج حاسوبي حي، متى اشتغلتُ في اليقظة أو النوم، أروح أردد تعويذتي الثلاثية، في ظروف الحرب والسلم والعمل والدرس والعلاقات… لكي أحول دون وقوعي في مغامرات غير محسوبة. لكنْ فور ترديدها، تَخِزُني تحت إبطي أمنيتي الدفينة وهي ألاّ أعود برنامجًا حاسوبيًا. لقد تعبتُ من الإقامة داخل تلك الحلقة الدوّامة حمّالة الأوجه. وتعتريني رغبة عارمة في أن أنمّي فيَّ بداهة وفطرة وجرأة لم أعرفها منذ عُمر.

لكن الأهم أني أودّ من كل قلبي أن أتذوق طعم "المفاجأة"، المفاجأة التي تلي جلاء غمامة الجهل فتنفتح جفوني على وسعها من الدهشة، ويرتخي فكّي الأسفل. فلطالما اعتقدتُ بأن التفاجؤ هو مفتاح المغامرة.

إذّنْ، قلتُ أنمّي تلك النواقص كلها ولو في عمر متأخّر، فأنا…؟ أنا من أو أنا ماذا؟ لست أدّعي أني روبوت ولعلني لن أرقى في حياتي إلى هذه المرتبة الرفيعة من الوجود. أنا بشري أمرض وأشفى وأتعلّم وأتألمّ وأبكي وأضحك وآكل وأتحمّل عواقب الطعام، نافعها وضارّها… لكنّ ليس بالمقدار الذي يروي عطشي للحياة الذي لم أشعر به من قَبل بسبب تلك التعويذة.

أظن الوقت حان لأجيب على سؤال مستر بوكوفسكي أعلاه. لا يا مستر بوكوفسكي، لا أعرف من كنتُ قبل أن يقولَ لي العالم من يجب أن أكون. وهل عليّ أن أعرف ذلك، حقًا؟

كل ما أعرفه أني قاومتُ الغرق وتخبّطتُ تحت الماء في ذلك الحوض، كما قيل لي. لم أكن أحاول إنقاذ نفسي أو ربّما كنتُ أحاول، لا أذكر ولا أعرف أساسًا. إدراكي كان غريزياً واستجابتي كانت فطرية. كنت حيوانًا مغفّلًا أحاول البقاء على قيد الحياة من دون أن أعرف ما هي الحياة وما هو الموت. ولم أكن أخافهما. كنت متفاجئًا بما يحدث لي، وما فكّرتُ بشيء.

وجدتُها!!! وجدتها إجابتي النهائية على سؤالك مستر بوكوفسكي: كنتُ حيوانًا. لكنْ، ما إن مسّني ذلك الأحدهم لينتشلني من الغرق حتى غدوتُ بشريًا مثلك، مستر بوكوفسكي. وهو الأمر الذي حرمني فرصة أن أكتشف بنفسي من كنتُ قبل إنقاذي.

في تلك اللحظة، فُرض عليّ خيارٌ ليس خياري، وأصرّ العالم أنه هو ما أبقاني حيًّا ومن واجبي أن أتقبل فضل منقذي عليّ. وهكذا صرتُ أقبَل بما يمليه العالم عليّ. ففي مرحلة الغرق، كنت أجهل ما هو القدر والخوف والمصير والانتظار وكل الطروحات الوجودية التي تشرّبتها من العالم الذي فرض عليّ النجاة على طريقته. 

ومنذ لحظة إنقاذي، فقدتُ بداهتي وفطرتي وجرأتي. وهكذا أمسيت كتلة متحرّكة من الحذر. ألوذ بتعويذتي الثلاثية ذات الاحتمالات المتناسلة. وكل احتمال منها أحسبه واقعًا أنتظر حدوثه أو "واقعًا مؤجلًا". أي أني، إذا تجلّى هذا الأخير وتحقّق، لا أتفاجأ به لأنه قابع في ذهني… مع كل الاحتمالات الأخرى.

باخت حياتي، مستر بوكوفسكي، إلّا في حالات معينة، أو حالتين تحديدًا حالة الحب وحالة الإيماء:

- حالة الحب كانت تعطّل ترداد التعويذة وتتشقلب أوامرها فأتأتئ ولا أتوصّل إلى أي استنتاج، إلى أي شيء على الإطلاق. ربما تنميل في المخيخ وانحلال في الكتفين. ولأنها حالة "مِزاجْ"، على قول مصري، تركتُ نفسي أغرق فيها كلّما تجلّت، علّني أستعيد شعوري أثناء غرقي الأول. ثم جالستني شريكتي للمرة الأولى. ويا لمفاجأتي ودهشتي، أعجبَتْها سجيتي! أنا؟ سجيّ! لم أجبْها حينها لأن فكّي الأسفل ارتخى، كما كنت أتمنّى، وعجزتُ عن إطباقه. وصرت أشتاق إلى شريكتي لألاقي سجيتي.

- في حالة الإيماء كنت أشعر نفسي خالقًا أصنع العوالم في الهواء. وعلى مرأى من المتفرّجين، أنصب أشياء غير مرئية: باب. كرسي. شخص. جدار. وردة. كمان. طاولة. رشّاش. كأس. صندوق… وأتفاعل معها بأفعال مجرّدة: ظهر. نظر. لمس. اقترب. فتح. غمز. قتل. خفق. استحى. أهدى. جلس. قبّل. شرب… توالي الأفعال يؤكّد حضور الأشياء الغائبة ويخيط تفاصيل المشهد ويضبط إيقاعه الدرامي.

ويا ما نسيت نفسي ألفّ وأدور في العوالم التي خلقتها. فالانهماك في عملية الخلق في الفراغ أعتقني من استخدام تعويذتي. لم أكن بحاجة إليها في تلك الأوقات.

وكنت أُدهش كثيرًا عندما يختلف متفرّجون على لون الباب الذي أنصبه أمامهم. أصلًا لا وجود للباب لكنه حاضرٌ في مخيّلة كل متفرّج. أنا أنصب الباب في المخيّلة والمتفرّج يصنعه فيراه باللون الذي يحبه.

أعجبتُ كثيرًا بهذه العلاقة بيني وبين مخيّلة الآخرين. علاقة يسيرة سمحة هدفها الإمتاع والمؤانسة، من خلال شحذ المخيّلة: لا كلام يفسِّر ويفسَّر. أشكال وألوان لا يفرضها أحد وتدعو الى التأمّل. ومشاعر كثيفة لا تؤذي أحدًا بل تبرئه، يتقدّمها الفرح.

مستر بوكوفسكي، لن أتذكّر ولن أعرف من كنتُ قبل أن يقولَ لي العالم من أكون، لكني منذ الآن فصاعدًا سوف أغامر وأروي روايتي بأفعالي.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button