خلالَ الحربِ الأهليّةِ اللّبنانيّةِ (1975-1990) والفترةِ الممتدّةِ قبلَها، برزَتْ عدّةُ أعمالٍ أدبيّةٍ في مجالَيْ الشّعرِ والنّثرِ على حدٍّ سواءَ، تعكسُ الواقعَ الاجتماعيَّ والسّياسيَّ في مختلفِ هذه الحقب. لعلَّ أبرزَ هذه الأعمالِ على الصّعيدِ الرّوائيِّ هو روايةُ "طواحين بيروت" الّتي كتبَها توفيق يوسف عوّاد في بدايةِ السّبعينيّات. وقد صنّفَتْها منظّمةُ الأونيسكو عامَ 1976 ضمنَ سلسلةِ "آثارِ الكتّابِ الأكثرِ تمثيلًا لعصرِهم". في المقابلِ، فإنّ روايةَ "كوابيس بيروت" لغادة السّمّان الّتي نُشرَت في العامِ الأوّلِ من بدايةِ الحربِ، قد صنّفَها اتّحادُ الكتّابِ العربِ في قائمةِ أفضلِ مئةِ روايةٍ عربيّة. بينَ الرّوايتينِ قواسمُ مشتركةٌ في المسائلِ الّتي تطرحُها كلٌّ منهما، معَ اختلافِهما في ظروفِ معالجةِ تلكَ المسائلِ والقضايا بينَ فترتَينِ مفصليَّتَينِ من تاريخ لبنان. فعمَّ عبّرَت كلٌّ من الرّوايتين؟ وأيّ تساؤلاتٍ تتركُهما عندَ القارئِ، خاصّةً ونحنُ نعيشُ اليومَ في لبنانِ مرحلةَ انهيارِ نظامِ سياسيٍّ ونشوءِ آخرَ، بينما تعاني بعضُ البلدانِ العربيّةِ من تبعاتِ ما سمّيَ "الرّبيع العربي"؟

بعدَ كتابتِه لروايةِ "الرّغيف" في 1939، انقطعَ توفيق يوسف عواد لحوالَيْ ثلثِ قرنٍ عن الرّوايةِ، ثمَّ انفجرَ دفعةً واحدةً في "طواحين بيروت". ولعلَّكَ إذا ما قرأتَها ستعتقدُ أنَّ كاتبِها شابٌّ مفعمٌ بالرّوحِ الثّوريّةِ يروي تجربَتَهُ النّضاليّةَ المُستجدّةَ في سبيلِ قضاياهِ المختلفةِ، الاجتماعيّةِ منها والسّياسيّة؛ إلّا أنَّ العجبَ سيصيبُكَ حين تعرفُ أنَّ عوّاد، حينَ كتبَ روايَتَهُ، كان في العقدِ السّادسِ من العمر. رغمَ الرّوحيّةِ الشّبابيّةِ الّتي تتوهّجُ في الرّوايَةِ، إلّا أنّ بنيتَها كانَت كلاسيكيّةً، لم يطرأ عليها التّطوّرُ الّذي أصابَ كتابةَ الرّوايات خلال الثَّلاثينَ عامًا، بين أواخرِ الأربعينيّاتِ وبدايةِ السّبعينيّات. هذا التّنويعُ يعكسُ الفارقَ بين ذاتيّةِ الكاتبِ المسنِّ وموضوعِ الرّوايةِ العصريِّ الملتهب.

تجسّدُ شخصيّةُ تميمة نصّور ابنةِ قريةِ "المهديّةِ" في جنوبِ لبنانَ الوافدةِ إلى بيروتَ للدّراسةِ في دارِ المعلّمينَ والمعلّماتِ، ومثلُها شخصيّةُ هاني الآتي من "دير المطلّ" في المتنِ، النّزوحِ الحاصلِ من الأطرافِ نحوَ بيروتَ، وبمعنىً أدقَّ علاقةَ الرّيفِ بالمدينة. تتمحورُ الأحداثُ حولَ الحراكاتِ الاجتماعيّةِ في أواخرِ السِّتّينيّاتِ من الإضراباتِ النّقابيّةِ إلى "ثورةِ الطّلابِ" عامَ 1968، حيثُ يظهرُ جوهرُ القضايا الّتي طبعَتْ تلكَ المرحلة. يبرزُ الصّراعُ بين اليمينِ واليسارِ، وبينَ القوى التّقليديّةِ الرّجعيّةِ (الّتي يجسّدِها في الرّوايةِ جابر نصّور – شقيقُ تميمة - وحسين القمّوعي، وإلى حدٍّ ما أكرم الجردي الّذي يدّعي عداءَه للإقطاعِ في منطقةِ البقاعِ)، وقوى التّغييرِ الشّبابيّةِ أمثالِ هاني وتميمة. من ناحيةٍ أخرى، يأخذُ صراعُ العَلمانيّةِ والطّائفيّةِ حيّزًا أيضًا، خاصّةً لناحيةِ بلوَرةِ مفهومِ العلمانيّةِ بوصفِه نظامًا سياسيًّا. إضافةً إلى ذلك يتطرّقُ الكاتبُ إلى مسألةِ هويّةِ لبنانَ ما إذا كانَ عربيًّا أم فينيقيًّا، وإلى موضوعِ الفدائيّينَ الفلسطينيّينَ في جنوبِ لبنانَ، وبشكلٍ جوهريٍّ إلى الخطرِ الإسرائيليِّ المتزايد.

أما الجنسُ فيُظهرُ عوّادُ تجلّياتِه المختلفةِ ضمنَ المجتمعِ، من الدّعارةِ الّتي تقودُها مدام روز الخوري، إلى العلاقةِ الّتي تجمعُ تميمة برمزي رعد، الكاتبِ المتزمّتِ لقضايا الحريّةِ والتّحرّرِ، وكذلك المحامي أكرم الجردي الّذي يحاولُ أن يضمَّ تميمة إلى قائمةِ معشوقاتِهِ دونَ أن يُفلحَ، وصولًا إلى الحبِّ الطّاهرِ الّذي يجمعُها بهاني.

لقد رسمَ توفيق يوسف عوّاد حدودَ الصّراعاتِ ضمنَ "الفسيفساءِ اللّبنانيّةِ" باحترافيّةٍ وذكاءٍ، ضابطةً إيقاعَ التّفاعلاتِ بين مختلفِ الفئاتِ الاجتماعيّة. ما يثيرُ الاهتمامَ أكثرَ، أنَّ الكاتبَ أنهى روايتَه بحدثٍ عنفيٍّ دمويٍّ متمثِّلٍ بمقتلِ ماري أبو خليل – صديقةِ تميمة - على يدِ تامر نصّور الّذي كانَ يحاولُ قتلَ شقيقتِه ليغسلَ "عارَها". وينتهي الأمرُ بتميمةَ بانخراطِها في العملِ الفدائيّ. يتضّحُ هنا سببُ العنفِ كمحاولةٍ من قوى التّقليدِ الحفاظَ على النّظامِ القائمِ في وجهِ حالةِ التّمرّدِ الّتي مثّلتها علاقةُ الحبِّ بينَ تميمة (المسلمةِ الشّيعيّةِ) وهاني (المسيحيِّ المارونيّ). كأنّما الكاتبُ من خلالِ هذهِ النّهايةِ، كانَ يستشرفُ المستقبلَ عبرَ إيحائِه بأنَّ الأوضاعَ ذاهبةٌ نحوَ العنفِ والدّمويّةِ في المرحلةِ المقبلة!

شكّلتْ بدايةُ الحربِ الأهليّةِ اللّبنانيّةِ في نيسانَ عامَ 1975 قطيعةً معَ المرحلةِ السّابقةِ لها بوصفِها نقطةَ التحوّلِ في مسارِ الأمورِ على الصّعيدَينِ السّياسيِّ والاجتماعيّ. فبعدَ أن طبعَت الحراكاتُ الاجتماعيّةُ الثّوريّةُ وصعودُ اليسارِ مرحلةَ ما قبلَ الحربِ، جاءَ العنفُ الدّمويِّ وصعودِ القوى الطّائفيّةِ ليكون سمةَ الفترةِ الممتدةِ من العامِ 1975 وحتّى نهايةِ الحربِ في العام 1990.

في هذه الفترةِ بين العامَين 1975 و1976، كتبَت غادة السمّان روايتَها "كوابيس بيروت". يبدو العنوان وكأنّه ردٌّ على "طواحين بيروت"، أو لعلَّه امتدادٌ له، لكن دونَ أن تقصدَ الكاتبةُ ذلكَ فعلًا! أوّل ما يلفتُك في الرّواية هو الإهداءُ نفسُه الّذي وجّهتْه الكاتبةُ إلى عمّالِ المطبعةِ الذين يعملونَ رغمَ ظروفِ الحربِ.

تتألّفُ الرّوايةُ من 197 كابوسًا وحلمٍ واحدٍ، وتجري أحداثُها على لسانِ الكاتبةِ نفسِها، حيثُ احتُجِزَتْ في منزلِها المقابلِ لفندقِ الهوليداي إن، في خضمِّ ما سُمّيَ "معركةَ الفنادقِ" الّتي دارَتْ بينَ الأطرافِ المتحاربين.

ما تناولَهُ عوّادُ من قضايا أثناءَ الحراكاتِ الاجتماعيّةِ والاحتجاجاتِ، تناولَتْه السمّانُ، لكنْ هذهِ المرّةَ وسطَ الحربِ الأهليّةِ المليئةِ بالمجازرِ والويلات. تروي الكاتبةُ مأساةَ احتجازِها من خلالِ انقطاعِ التّيارِ الكهربائيِّ والمياهِ وفقدانِ الطّعامِ والخوفِ من أصواتِ الرّصاصِ والقذائف. وفي هذه الظروفِ تبدأ بمناقشةِ مختلفِ القضايا كالطّائفيةِ والعلمانيّةِ، واليسارِ واليمينِ، والقضيّةِ الفلسطينيّةِ، وهويّةِ لبنانَ، والصّراعِ الطّبقيِّ، وكذلكَ بين التّقليديّينَ والتّغييريّين. تصفُ غادة السمّان مشاهدَ القتلِ على الحواجزِ وفي غرفِ التّعذيبِ، والموتَ جرّاءَ القنصِ، وتوردُ في وصفِها هذا وصفَ الضّحايا والجثثِ والقاتلينَ على حدِّ سواء. كما تسردُ مغامراتَها في محلِّ بيعِ الحيواناتِ الملاصقِ لمنزلِها وكيفَ كانَ سلوكُ الحيواناتِ عندما حاولَتْ إطلاقَ سراحِها، فتُشَبِّهُ سلوكَ البشرِ بالسّلوكِ الّتي رأتْه من الحيواناتِ في مشهدٍ مليءٍ بالرّمزيّة. هنا لا تغوصُ الكاتبةُ في أسبابِ العنفِ بقدرِ ما تتحدّثُ عن تمظهراتِه والسّلوكيّاتِ الّتي تحكمُ النّاسَ بوجودِه، وبذلك يبدو العنفُ كأمرٍ واقعٍ وجزءٍ ثابتٍ من نظامِ الحياةِ اليوميّة.

في حين أظهرَ توفيق يوسف عواد شارعَ الحمرا مليئًا بالحياةِ والتّناقضاتِ، تسردُ غادة السّمان موتَه جرّاءَ الحربِ ونزولِ القذائفِ فيه.

إضافةً إلى ذلكَ، عبّرَت السمّانُ عن علاقتِها بالكتبِ والمكتباتِ، وعن خوفِها من أنْ تصيبَ قذيفةٌ بيتَها ويكونَ مصيرَها كمصيرِ الجاحظِ بأن تقعَ مكتبتُها عليها وتموت. للمفارقةِ، فإنَّ ما خافَت منه السمّانُ قد أصابَ عوّادَ، فقد قضى الأخيرُ بسببِ القصفِ الّذي طالَ السّفارةَ الإسبانيّةَ في بيروتَ عامَ 1988.

في "طواحين بيروت" سردَ عوّادُ الصّراعاتِ الاجتماعيّةِ وتجلّياتِها في حقبةِ ما قبلِ الحربِ الأهليّةِ، وتنبّأ بالعنفِ القادمِ ربما، بعدها جاءتْ غادة السمان لـ"تُكملَ" السّردَ عبرَ "كوابيس بيروت" وتروي المآسي اليوميّةَ للعنفِ المريبِ الّذي تنبّأ به عوّاد. بينَ طواحينِ توفيق يوسف عوّاد وكوابيسِ غادة السمّان حكايةُ مدينةٍ مرَّت بتجاربَ ومآسٍ وتغيّراتٍ جذريّةٍ على صعيدِ المجتمعِ والسّياسةِ، سبقَت بعقودٍ التّحوّلاتِ الّتي يعيشُها العالمٌ العربيُّ اليوم. تبدو الرّوايتانِ كمحاورةٍ بينَ حقبتينِ من التّاريخِ، يفصلُ بينهما انهيارُ نظامٍ اجتماعيٍّ وسياسيّ. هذه المحاورةُ يجبُ التوقّفُ عندها والتّمعّنُ فيها جيّدًا، خاصّةً وأنّنا نقفُ عندَ أحدِ طرفَيْها اليوم.

بدأت الحربُ الأهليّةُ اللّبنانيّةُ بحراكٍ اجتماعيٍّ وتوقٍ إلى التّغييرِ، ثمَّ تحوّلت إلى حربٍ طائفيّةٍ داميةٍ؛ كذلك الحالُ بالنّسبةِ إلى الرّبيعِ العربيِّ الّذي اتّخذَ في بادئ الأمرِ شكلَ احتجاجاتٍ شعبيّةٍ ضدَّ أنظمةِ القمعِ الدّكتاتوريّةِ، ما لبثَ أن اتّجهَ نحو العنفِ المسلّحِ. يلمعُ هنا، عندَ كلِّ مفصلٍ، السّؤالُ نفسه: هل من الحتميِّ أن يتحوّلَ كلُّ حراكٍ اجتماعيٍّ تغييريٍّ أو مطلبيٍّ إلى اقتتالٍ طائفيٍّ يدمّرُ المجتمعَ أكثر، وينتهي بتسويةٍ تكون نقيضًا لأسبابِ الأزمة؟ وأيُّ مسؤوليةٍ تقعُ على كلِّ واحدٍ منّا حتّى لا تتحوّلَ كلُّ طواحينِ بيروتَ إلى كوابيس؟

الصورة: بيروت، 1984

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button