أُحسَب على من شاهدوا المذبحةَ عن بُعد؛ من استيقظوا يوم السابع من أكتوبر فَرِحين بما أتاهم، مذهولين بما اتّضح أنّه ممكن، ومَن يسمعون دوي صواريخ المقاومة تفجّر تل أبيب. ومن يروْن الطائرات العسكرية المعادية تحلّق جيئة وذهابًا، ويحاولون إدراك ما تحدثه من قتلٍ وقهرٍ، ثم يدركون أنّهم مهما حاولوا، لن يدركوا لحظةً منه.
أُحسَب على من ابتاعوا شوالَ طحين بكلّ سذاجة، تحسّبًا من أن يصلَ اللَّظى إلى رام الله في الأسبوع الأول من المجزرة، وعلى مَن ترجموا منشوراتِ الموت المأنسنَة في الأسبوع الثاني. نشرتُ صور أجساد أطفالٍ يرتجفون ومشفى يتفجّر وبضع قصائد عن الحريّة بالإنجليزية، متناسيةً عمى العالم الأبيض الذي نشاركه صورَ دمائنا، وهو لا يستحق أن يرى بنانَ طفلٍ واحدٍ من أطفالنا تحت الرّكام.

أُحسَب على من تمنّوا أن يصل اللظى، أيّ لظى، إلى رام الله. وأُحسَب أيضًا ممن حاولوا التبرير للضفة الغربيَّة بأنّها والله لم تترك غزة وحيدة: "قتل الاحتلال 340 فلسطينيًّا في الضفة منذ 7 أكتوبر، واعتقل الآلاف. الأسرى يذوقون الويلات. قتل السجّانون ستة منهم خلال هذين الشهريْن.

هل تعرفون كم شهيدًا في اقتحامات جنين وطولكرم؟
ثم لا توجد تنظيمات سياسية فاعلة، اجتثّها الاحتلال وعملاؤه وعطّلها خلال السنين الماضية كما تروْن. إذًا لمن نتوجه؟ لا قيادةَ لنا ولا حراك. أنتم لا تفهمون، قتلت السلطة أربعة متظاهرين! هل تسمعون؟ تلاحق المقاومين دون هوادة.

ولم أقل لكم بعد عن عنفِ المستوطنين وتسليحهم. كلهم مجرمون، وفي كلّ مكانٍ يتربّصون".
ومع أنّني لم أكذب، وقلتُ الحقيقة، أدرك أنّنا - وبالذات لأنّ هذي الحقيقة - نعرفُ تمامًا ما يجب فعله.

نستيقظ يوميًا على أمل أن ينتهي كلّ شيء، هكذا، دون تحريك ساكن. ستحرّرنا معجزة ومعاركُ بطولية بعيدة عن بيوتنا، تخلّصنا جميعًا وتعفينا من يومٍ جديد نشاهد فيه ذبح أهلنا. وأحيانًا، نستيقظ على أمل أن نلقى المصيرَ ذاته على الأقل، إنْ كان لا بدّ من الموت. علّنا ننجو من كل هذا الذنب، ونقول إنّنا أيضًا متنا، مثلكم يا أحبائي.

لكننا نعرفُ تمامًا ما يجب فعله.

استطاعت ماكنة القتل الوحشية وعملاؤها أن يبتروا أطرافنا، ويخيفونا من مصيرٍ مظلمٍ لا حدَّ لبشاعته، فوقفنا نراقب الوحشَ يلتهمنا واحدًا تلو الآخر، كأنّ الفرجة ستؤجِّل دورَنا قليلًا. أكثر من شهريْن ونحن نسمع السُّلطة والحكومات العربية لا تتزحزح عن مقولتها الأبديّة: "ليس باليد حيلة. الأمور كلها بيد الاحتلال. نحتاج اشتباكًا مدروسًا بأقلّ الأثمان. نناشد المجتمع الدولي لإدارة الصراع". وعلى قدرِ ما يبدو كلّ ذلك سخيفًا وانهزاميًّا، نراه قد تسلل عجزًا مريحًا إلى دواخلنا يعفينا من المواجهة، ونردده من بعدهم بصياغةٍ مختلفة - أقل سخافة ولكن له الأثر نفسه - تشكّك في جدوى كلّ فعلٍ ممكن وتخشاها.

في اليوم السبعين، حلمتُ بأطفال يلعبون، وجوههم مألوفة، يرتدون ملابس زاهية وأحبّهم، ولكني لا أحفظ أسماءهم. كانوا يقفون في صفٍّ طويلٍ أعلى سورٍ حجريّ قبالة النافذة. ركضتُ إليهم أحذّرهم من السقوط، لكنّهم بدأوا بالقفز واحدًا تلو الآخر. وصلتُ إلى النافذةِ مرتعبة ومتأخرة، وحين نظرتُ إلى الأسفل، وجدتهم قد حطّوا على رملٍ أبيضَ ناعم يمرحون، ويحرّك الواحد منهم ذراعيْه كمن يلعب بالثلج. ثم شاهدتهم يضحكون ويتسلّقون السورَ للقفز مرَّةً أخرى.

بكيتُ كثيرًا في الصباح التالي.

أعرفُ أنّ الحزن قاهر، وأنّنا سنضطر للعيش مع هذه الفجيعة ما حيينا، ولن نعودَ أبدًا كما كنّا. قتل الحزن فينا ما قتل، وفي لحظاتٍ ظننا أنّنا واعون بقدرٍ كافٍ لنعرف أن حزننا السلبي يجب أن يبدَّل بالغضب الفاعل، والعار بشحذ نار ما في داخلنا، والانهيارات بالصلابة. وجلسنا نسمع أغنية "ادفنوا أمواتكم وانهضوا" إلى أن نزفت آذاننا، ورغمَ إيماننا بأنّ "حبّنا أقوى من الحب وأغنى"، لم نقوَ على النهوض.

ما يقتلني أكثر من الحزن هو الشعور بالعجز. ولكن حتى هذا الشعور، يجب أن نغضب عليه، لأنّ العجز ذاته ليس من فراغ. العجز هو حالة هيكلية راسخة ممنهجة، زُرعَت فينا مع مسارات التسوية والعمالة، وتلاعبت بنا لتقنعنا بأن ما باليد حيلة، أو في أحسن الأحوال، بأن نلقيَ اللوم جلّه على أنفسنا ونغرق في الشعورِ بالذنب دون حراك. 

أُحسب على من درسوا الإعلام بعد تبلور خطاب نبذ "العنف" ومخاطبة المجتمع الدولي. عُدّت لنا دوراتٌ لا تعد ولا تحصى حول "أنسنة الفلسطيني"، كأنّنا مجنّدون لإقناع العالم الأبيض بأنّنا نستحق الحياة في دويْلةٍ صغيرةٍ منزوعة السلاح. انظروا كم نحن مسالمون، فكلّنا مدنيّون عزَّل لا ذنب لنا بهذا الصراع. وكأنّنا نتبرّأ من كلّ شخصٍ حملَ روحَه على كفّه مدركًا الطريق ونخفيه عن أعيُن العالم.

انشغلنا لأعوامٍ بأسئلةٍ لا تعنينا، وبخطابٍ ليس موجّهًا لنا، ولا يخدمنا. لا يعزز فينا إلا الشك في استحقاقنا الحرية دون قيد أو شرط، والشك في أنّ المقاومة هي أبرز ما يثبت استحقاقنا للحرية والكرامة، لا ما ينفيه.

ثم وجدنا الغالبية منّا تدورُ في دوامةٍ من المهن غير المنتجة، جعلتنا مستعبدين لسوقٍ مرتبطٍ باقتصاد الاحتلال أو لوظائف في مؤسساتٍ تسترزق من الدول المانحة، التي قد تمنحنا كلّ شيْء إلا الاحترام. فنرى اليوم أنّه يصعبُ علينا إيجاد دورٍ حقيقيّ لنا في هذه اللحظة الحاسمة، ولذلك يجب أن نشعر بالغضب.

فنحنُ نعرفُ تمامًا ما يجب فعله.

أُُحسب على من يؤمنون بأنّ حجم المجزرة وكلّ هذا الخوف لا يجوز أن يُنسينا انتصارَ 7 أكتوبر وما بعده من بسالة وتضحية تحمّلها أشخاصٌ مثلنا. وأعرف أيضًا أنّ خطاباتِ الصمود واليقين بالنصر غالبًا ما تكون شعاراتية، تتجنب النظرَ لآلامِ الناس، وتخاف منها، فتقلّدهم وسام القربان المقدَّس.

لكنّ مشكلتي مع الصمود لا أنّه شعاراتيّ وغير واقعيّ؛ على العكس تمامًا. هو الخيار الوحيد دائمًا وأبدًا ولا نمتلك غيره.

ماذا نفعل غيرَ الصمود والنجاة؟

نقنع العالم الوضيع بأنْ ينقذنا؟ أم نقنع القتلةَ المجرمين بأن يكفّوا عن التعطّش لدمائنا؟ أم نموت منكسرين؟

مشكلتي مع الخطاب أنّه غالبًا ما يصدر عمّن لا يريدون الصمود ولا دعم المقاومة حقيقة، بل منشغلون بترشيح الآخرين لدفعِ الأثمان بالنيابة عنهم، على فرض أنّ هؤلاء الآخرين اعتادوا الفجيعة. ولذلك يجب أن نشعر بالغضب.

بتروا أطرافنا، لكنّهم لن يستطيعوا بترَ الحقد المتنامي في حلوقنا. فكلّ الذي نراه اليوم، جعلنا ندرك كلّ الأهوال التي عشناها دفعةً واحدة. كلها.

في البدء، كان شريطًا يُعرَض في رؤوسنا ليل نهار، تُضافُ إليه وجوه وبيوت وجدران وسجون جديدة كلّ ساعة منذ وُلدنا. لكننا الآن نشعر وكأنّ الجميع ماتوا هذا الصباح والجروح كلّها مفتوحة. لا مهربَ منه الآن، ولا وقتَ للحداد الطويل، فنحن نعرف ما يجب فعله.

"لهم الرحمة والمجد، ولنا من بعدهم حُسن الثأر".

الصورة للمصور الياباني Ryuichi Hirokawa

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button