مضى الكثير من الوقت في عالم الرمادية هذا، مضى الكثير من الوقت. وكُلّ شيء باهت ورمادي اللون. الرائحة والطعم، الهواء والماء والطعام والشجرة والسماء والشمس والقمر، الكنبة والطاولة والمبنى وعظمي ولحمي، كُلّ شيء بطعم الرماد. هكذا عبّر عن الحرب، هكذا رأى شهورًا تمضي أمام عينيه وهكذا كانت حياته بين دوي القصف والنار وأصوات الطائرات وهي تزمجر مُعلنة نهاية قصة ما.
طالت الحرب، حتى أن الكثير من الذكريات عن ما قبل الحرب باتت مبتورة وغير واضحة، كأنها قضت على الذكريات أيضًا، كأن الحرب تمتدّ امتداد الأزل وكُلّ ما سبقها سراب ووهم.
في مُخيّلته لم تبدأ الحرب في تاريخ محدد، فهي بدأت فقط، بدأت منذُ زمن، وعندما يصير الموت بهذا الشكل المجاني غير المحظور، وعندما تتطاير الأشلاء في كُلّ مكان وعندما تُترك الجُثث على جنبات الطريق لتصير طعامًا للكلاب الشاردة، لا يُمكن التفريق بين يومٍ وآخر. كُلّ التواريخ تكون سواسية وكُلّ الأيّام تصير واحدة. تجرّ نفسها بثقل تحت صرير الطائرات وطنين القذائف ودويها. فمن كان قادرًا على الوصول في رأسه إلى تلك الصور الخاصة بالذكريات عن يومٍ عادي، يوم يستيقظ فيه ولا يسمع طنين المُسيّرة ولا هدير الطائرة ولا أخبار الموت، يوم عادي جدًّا، حفيف أشجار وعصفورٌ يُصارِع الحياة، تُرى كيف يكون صباح كهذا؟ وهل نعيشه مرّة أُخرى؟
لم يكُن قد تابع الأخبار منذ مدة، فأي أخبار هذه؟ الموت في كُلّ مكان، وإسرائيل تقتل كُلّ شيء، كائنات حية وجمادات، مجزرة تلو الأخرى، ماذا يدور في العالم الخارجي؟ من يهتم؟ لا أحد.
نام في الطريق، نزوح بعد آخر وهو يسأل: "وين نروح؟". لا وجهة ولا مكان، في الشارع في الشارع، من يهتم؟ لا أحد.
نام في الشارع، مفترشًا الطريق، الرصيف وغُباره وصراصيره وقططه الشاردة، الطريق، لا شيء يُغطّيه من الأعلى ولا يمينًا ولا يسارًا، في الخلاء الرحب الفسيح، وشعور من الوحشة المُميتة يُخيّم على مفاصله، من رأسه إلى أصابع قدميه، شعور من الوحشة يصل إلى ما تحت الأظافر. نام كميت، رُبما تعبًا ورُبما شعور من يُريد أن يموت فعلًا، يُريد أن يختفي وينعتق من هذا العالم الحقير، يختفي عن شطح الأرض وينعتق من تدنيسه. ففي أيّ عالم نعيش؟ أيّ عالم هذا الذي يرى شلالات الدم هذه وتلك الأوصال المُقطّعة وتلك الجُثث المُتحلّلة ثمّ يُكمِل دورته غير آبه؟ بالطبع عالم لا يُستحقّ العيش فيه وعالم من الأفضل مُغادرته، عالم لا شفقة فيه ولا رحمة، عالم منافق وزائف، الموت أرحم من وجوده به.
خلال تلك الليلة، وبينما كان يُصارع وحوش الطريق ليفوز بساعتين كاملتين من النوم، كان قرار وقف إطلاق النار قد أخِذ بالفعل، وقبل أن ينام كان يعتقد أنهُ سيجد صباحًا من صباحات الحرب، لكنهُ استيقظ على خلاف ذلك. فتح عَينيه ولم يجِد أحدًا، فتح عَينيه ولم يجِد أحدًا، لم يسمع صرير الطائرات كالمُعتاد ولا أصوات الانفجارات الآتية من هُنا وهُناك، لم يسمع شيئًا البتّة. فكّر في الثواني الأولى أنهُ مات وها هو في العالم الآخر حيث لا طائرات حربية ولا موت ولا جُثث على جنبات الطريق. ثوانٍ ثمّ تساءل مستدركًا، هل يوجد في العالم الآخر هذا الدمار المهول أيضًا؟ فعرف أنهُ لا يزال في العالم نفسه.
صفاء وهدوء مُخيفان، شساعة مُريبة وهدوء لم يعتده. أعجبه ذلك قبل أن يتسلّل شعور الخوف إلى أطرافه ويحيله صنمًا جاثمًا في مكانه. فهذا الهدوء هو نفسه ما يُذكّرنا بالوحشة البشرية. التيه في الصحراء بلا بشر من حولك ولا حركة حياة، التيه هذا في الهدوء نفسه، مُرعب. أين الناس؟ أين شعب غزة؟ هل هربوا جميعًا وهُجّروا وتركوني هنا وحدي؟ أين الطائرات والمُسيرات؟ أين القصف وأطنان القنابل؟ أين الإسعاف؟ أين الناس وتدافعهم هربًا من الموت؟ أين كُلّ هذا؟
في غمرة ضياعه وتساؤلاته، رأى طفلًا قادمًا من البعيد، يركض حاملًا معه قطعة من القماش لم يعرف صاحبنا ما هي، فاستوقف الولد وسأله: "إلى أين؟ وأين الجميع؟". بزهوٍ كبير، وبفرح لا يوصف، كأن البراءة والحياة قد بُعثت من جديد في تلك العينين، قال وهو يلهث: "ألم تصلك الأخبار بعد؟ انتهت الحرب، صدر القرار". وركض شمالًا وهو يُردد "صدر القرار، انتهت الحرب، صدر القرار، انتهت الحرب".
انتهت الحرب؟ لم يُصدّق ما يسمعه. أهذه اكاذيب أطفال؟ لا لا، بدا جادًا جدًا. بدأ في المشي على الطريق الذي سلكه الطفل. ثم وفي نسق تصاعدي، هرول في مشيته ثمّ أخذ يركض. الآن بات يسمع أصواتًا. الآن ثمّة ما يُسمع، ثمّة ما يدعو للحياة، زغاريد وصُراخ وتهليل وتكبير، الآن بدأ يرى أناسًا يجمعون شتاتهم ليعودوا إلى مناطق الشمال.
وقف في منتصف الطريق. "انتهت الحرب". صرخ بكُلّ قواه، صرخة وصلت ليُسمع صداها في الكون كُلّه. انتهت الحرب، من كان يعتقد ذلك؟ يا للحُلم، يا للصفاء، يا للروعة، انتهى أحقر وأحطّ وأعنف وأشنع فعل قام به إنسان، الحرب.
قطع جو الفرح هذا صوت انفجار ضخم، ثمّ استيقظ مُجددًا، قصفوا خيام النازحين، مجزرة يا ناس، سمع الصُراخ والعويل وصوت النار وهي تأخذ معها الحياة بأكملها.
يا للحُلم الغريب، انتهت الحرب. لنحلم مجددًا علّها تنتهي هذه المرة.