"لعلّه كان أمراً ذا معنى، أو لعلّه – على المدى البعيد - لم يكن كذلك. لكن ما من تفسيرٍ، ما من مزيج من الكلام أو الموسيقى أو الذكريات يمكن أن يلتقط ذلك الشعور- أن تعرف أنّك كنت هناك وأنّك كنتَ حيّاً في تلك الزاوية من الزمن ومن العالم، مهما كان معنى ذلك."

- الخوف والبغضُ في لاس فيغاس – هنتر س. طومسون 

 

كان الطفل يتشاقى بقطف الخوخة الكبيرة، أي سرقتها، ثم القول "مش أني"، أي الكذب. شقاوة ثانية يتوسّل بها مَحو تلك الأولى. كان أكبرُ هَمّه ألّا يُفتضَح أمرُه. ثمّ غداً يومٌ آخر، همّ آخر، كأن لا تكتشف أمّه أنه مزّق بنطاله الجديد عند الركبة، كأن يكون الامتحان سهلاً، كأن لا يُكثروا عليه فروض الاثنين لأنه يريد أن يلعب في نهاية الأسبوع. حتى عندما يستشرس والداه على بعضهما البعض في المطبخ، صراخاً وتهديداً وتطبيش أبواب خزائن وخلاف ذلك، يكون هو يفكّر متى يهدآن بقدرٍ يكفي لأن يتجرّأ على طلب مال للبوظة من أحدهما على الأقل. الهمّ يأكله. لكنّه بعد أكثر من غدٍ سيصير كبيراً له هموم أكبر. ينسى كيف يقطفُ الخوخة الكبرى فيما هو يلبس القميص الأبيض والبنطال الكحلي عند السابعة صباحاً قبل يوم عمل التاسعة – حتى - الخامسة، ثمّ – لو كان محظوظاً – يعود ويتذكّر. 

كيف عادت ثمرةُ الخوخ إليه؟ لعلّه رآها في المنام… يشرب قهوته السادة فيتهيأ له شيء من طعمٍ كان يعرفه في حياة سابقة. إنه طعمها، يكادُ يحلف. 

إنه أصلاً لم يعد يحب الخوخ. لا تلائمه الحموضة أصلاً، والمرة الوحيدة التي يتذكّر فيها وجود هذا النوع من الفاكهة هي عندما يراسل خطيبته على واتساب وينهي كلامه بإيموجي الخوخة. "عيب"، تردّ عليه، مع إيموجي السعدان الذي يخبّئ عينيه بيديه. يشعر هو بشيءٍ من الإنجاز لأنه استفزّ شعوراً ما. لكنه استفزاز رتيبٌ يموتُ في لحظته. هل نسي مع طعم الخوخ المسروق لذّة الاستفزاز أيضاً؟ ذلك الأخير حامضٌ وحلوٌ معاً كذلك. كيف سيكون لو أنّه يستفزّ العالم بأسره؟ هل يكشف له إذاً طعماً جديداً؟   

وماذا أصابه اليوم؟ كلّ هذا لأنه رأى حبّة خوخ في المنام؟ المنام... لا يذكر منه شيئاً سوى ذلك الحضور الطاغي لجسم دائري غريب. المنام، المنام، ماذا كان فيه؟ كان قصيراً وجميلاً ومنهكاً ومخيفاً. لكن الآن، ثمّة أولويات، عليه أن يجد سيارة سرفيس تقلّه إلى مكان عمله. "سرفيسين عالمتحف؟" – يومٌ آخر. 

الآن، إذ يجلس إلى مكتبه، مع فنجان القهوة رقم اثنين، تبدأ تصفعه صورٌ عشوائية مما رأى في عالم الرؤيا، على شكلِ ومضات سريعة وبطيئة أحياناً، لكنها هاربة دائماً: كانت الفاكهة تطفو ككوكبٍ درّي، بنفسجيّة وبرتقالية وبيضاء. كلّما مال رأسه يمنة أو يسرة تحوّل لونها وتبدّلت هيئتها والتمعت وبرّقت. أوف ما أجملها. تبدو معلقة في الفراغ الكبير، لكنها قريبة، كأنها كما يقول النص المقدّس دنت فتدلّت فكانت قابَ قوسين أو أدنى. رائحة الفاكهة في قهوته وأنفه ورئتيه. يودّ لو أنه يحبسها هناك دائماً، لكنها تفلت منه.

ويفلتُ كلّ شيء. الصور والطعم والرائحة. ولا يعود يتذكّر شيئاً. يغمره شعور عميق بأنه الآن منكشفٌ تماماً. زميلته وزميله في المكتب مُنهمكانِ مُنهارانِ على شاشتيهما، لكنهما لسبب ما يثيران فيهِ الرغبة بالبكاء. لو أنّ أحدهما قال له شيئاً – أيّ شيءٍ – الآن فإنه لا بدّ ستنهمر الدموع من عينيه. يرى بقعة صغيرة على قميصه الأبيض وتزعجه جداً، ثمّ ينزعج من انزعاجه غير المفهوم منها. هل هذا ما نكبر لنصيره؟ كائنات تنزعج من البقع الصغيرة على القميص؟ 

وكيف يداري انكشافه؟ كيف يخفي تسارع أنفاسه حتى لكأنه يلهث؟ كيف لا يرمش حتى لا تفرّ الدمعة؟ ولماذا أصلاً يحسّ ما يحسّه الآن؟ لقد كان جيّداً، جيّداً جداً حتّى هذا الصباح. حتّى هجمت عليه صنوفٌ من المشاعر لا يعرف اسمها أو وَصفها. 

حنين؟ ربما، لكنه يشبه الشوق. يشبه فكرةً خطرت له عن المستقبل، لا عن الماضي. طعمُ الفاكهة التي يرغب في أن يلتهمها.  

يتذكّر الآن كتاب أطفال بالإنكليزية كان قرأه صغيراً. كان بطل القصة ولداً يتيماً يعيش مع عمتيه الشريرتين، يشتري كريستالات سحرية فتقع منه قرب شجرة الدرّاق فتكبر في الشجرة ثمرة واحدة. تكبر، تكبر حتى تصير بحجم البيت، فيدخل في جوفها وتتدحرج به بعيداً في مغامرة سحرية، رفقة سبع حشرات على رأسهم عنكبوتة ماكرة. يتدحرجون حتى البحر، فيحيط بهم سمك القرش من كل صَوب، ثم تخيط العنكبوتة حبال النجاة ليحملها بهم 502 من النوارس. يلقون بحبّة الدراق بعيداً من الوحوش فتقع على رأس مبنى إمباير ستايت. إنهم في نيويورك. إنها أضواء المدينة الكبيرة. سينتقل الولد ليعيش في سنترال بارك ويأتي كل الأطفال لزيارته والعيش معه، في واحة الطبيعة، وسط صخب المدينة، معاً، مع الحشرات الناطقة، مع البشر الأخيار والأشرار منهم، معاً، يأكلون من الدراقة التي لا تنضب ولا تفنى. 

نهض صديقنا من كرسي مكتبه ونظرَ من الشباك كأنّه فهم شيئاً. امتدّت تحته مدينةٌ حزينةٌ كلّما ضجرت انفجرت. فجأة، أحبّها أكثر. خافَ على نفسه منها، لكنه أحبّها أكثر. رغب لو أنه هو أيضاً يملك أن يفتعل هذا القدر من الدراما – لكن من دون تلك الوحشية التي ترافقها. ماذا رغب أيضاً؟ ألّا يبقى عالمه داخلياً فقط. أن يفكر أفكاراً جديدة وخطيرة ويقولها، بشجاعة اليائس. وأن يحبّ ويكره ويطأ الأرض مؤمناً بأنها له. أن يؤمن! هذه هي. وأن يجد أقرب ثمرة خوخ فيلتهمها.

الصورة: Nancy Ekholm Burkert, James and the Giant Peach (Roald Dahl), 1961

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button