واحد، اثنان، ثلاثة... عدَدتُ سبعة انفجارات متتالية. هل بدأتُ أهروِل إلى الخارج عند سماعي أوّلها، أم أنني جمدتُ وبدأتُ أتحرك بعد انفجارين؟ وهل كنتُ في الممر بين المدخل وغرفة النوم عند "الدبعة" الأولى، أم أنني كنتُ في المطبخ قرب الباب الزجاجي؟ فشلتُ في محاولة استعادة اللحظة وخريطتها وتتابعها. أعرف أننا كنا إثني عشر إنساناً وقطّتين في البيت، لكنني لم أرَ واحداً منهم في مشواري القصير هروَلةً إلى الخارج، إلى حافة "الدرابزين" المطلّة من القماطيّة على بيروت وضاحيتها الجنوبية. كان هدير الانفجارات السبعة أو أكثر يطنّ في الجوّ، ولثانية أو اثنتين كنّا سكوتاً، وكان الزمن يسيل. 

"علي! روح لعند أهلك هلأ بهاللحظة!" صرخت بابن قريبنا الذي يسكن أهله في مبنى مجاور. "علي، انزل عند أمّك وبيّك، عم قلك!"، "بيكونوا عم يسألوا عنك، روح على بيتك!"... كم مرة كررت الأوامر نفسها للصبي الذي وقف مشدوهاً يعيد جوابه بأنهم "مش بالبيت، مش بالبيت، واللهِ مش بالبيت". قال أنهم ليسوا هناك، ثمّ لم أفهم إلا بعد ساعات ما كان الصبي يقوله. لماذا لم أسمعه حين قالها، حين كنا في الخارج ننظر إلى جهة مجهولة كأنها ستمنحنا معلومةً ما عمّا تُحدثه بنا الطائرات؟   

كان الزمن والعقل سائلان. كان الجميع هنا حولي، خرجوا إلى مصدر الصوت مثلي، ونظروا مثلي إلى نقطة ما في "الضاحية"، وحين التفت أوّلنا، بدأ الكلام وكان الطنين لم يغادر الهواء بعد. كان الكلام مغلّفاً بهدير الانفجار، وكان الله بين كلّ كلمتين، في "الله أكبر" و"لا إله إلا الله" و"الله يستر" و"يا ربّ دخلك". كان "هو" بيننا كثيراً تلك الأيام، وكنا نجهل يومنا وغدنا وساعتَنا وأنفسنا. لم يكن من مساحة لأيّ شيء، لأيّ شخصٍ أو أيّ شخصيّ. وحيث كانت تضيق المساحات، تضيق كثيراً، كان ثمّة متسعٌ لله. 

*****

"جسد وترفعه! رفعته. وما وجدت! جسد وترفعه. إنه ثقيل. يشدّ إلى الأرض. يبلى ويذوب. لا ترفعه، فلا يقع. اتركه على الأرض قربك"*.

وتسأل ما يكون أصعب وأفجع؟ أن ترفعه، فتتحطّم يداك ويتهشم قلبك، فيشدّك إلى تحت، فتهوي مع الجسد؟ أو أن تتركه على الأرضِ قربك، فتُبتلى بأن تشهَد، بأن تنظر بعينيك التي يأكلها الغبار والفتات المحترق والذنب إلى جسدٍ يبلى ويذوب؟ 

نفسُك حطامٌ في الحالتين، وأنت الشاهد في كلتيهما. يداك تجهدان في محاولة ردّ ما لا يُردّ. هذا الموتُ سيّد الحياة، تعرفُ في نفسكَ ذلك، ولكنّ هذا الموت كثير. 

"جسدٌ وترفعه. إنه ثقيل. يشد إلى الأرض. يبلى ويذوب. لا ترفعه، فلا يقع. أتركه على الأرض قربك". لكنّ يداك تحرقانك، تريدان ثقلَ جسدٍ آخر، تطلبان وصله، تطلبان ثأره.

أظنّه جسداً ترفعه فيرفعك، وإن هويتما معاً، فالهوّة أرضكُما. لكنّه – واللهِ – موتٌ كثير.

*****

ألتفتُ من الفِكرةِ إلى حواسي: تميل أجساد ملتفّة بالأسود أو الأبيض على قفص فضّي كبير. تهمهم نساءٌ بأدعيةٍ تختلط أصواتها كأنها طلسم تعرفنَ وحدهنّ إيقاعه. تتلألأ قبّة مرقدٍ ذهبٍ حُفر فيه أن هنا "باب الحوائج". في هذا الصحن الممنوع على الرجال تنوح نائحات ويركض أطفال على البلاط الذي بقي بارداً تحت حرّ هذا الهواء البغدادي. رُبطت قماشاتٌ في مفاضل أضلع القفص، قبّل الأطفال فضّته الممسوحة بالمسك. كانت امرأة سألتني عند الباب: "لبنانية؟... الله ينصركم". أعارتني عبائتها التي خاطت اسمها أسفل ذيلها لكي أرِدَ بها الحرم. 

وهناك رأيتها، خيالاً يجيء ويذهب، يمسح كتفها كتفي إذ تتجاوزني. كانت عجوزاً صغيرة الحجم بصوتٍ يخرق القلب، تنشد أبياتاً فهمتُ منها سؤالها الملحّ، يدنو ويبتعد وهي تمشي، ويُعيد: "وإنتَ يا بو الغيرة وين؟"

*****

كان ملكٌ في يومٍ من أيّام ربيع الأول يخفّ إلى محبوبته، زهرةٍ في روضٍ من رياض الجنّة تُسمّى "شُهادة". وكانت قرين ما سمّته العرب في الحياة الدنيا "سعادة"، غير أنها كانت خيراً وأبقى. 

ذاب الملك في زهيرته في تلك الرياض صبابةً، فسقاها مما تجود به عيونُ المؤمنين حين يكون فرحها فائضاً. يلمّ دمعَ الحبّ والحنوّ والراحة بعدَ خوفٍ منهم، يغذي بها محبوبته، فيشتدّ عودها الأبيض، ويكبر قرصها الأحمر كأنه الشمس. 

وفيما هو على تلكَ الحال، سمع الملك عبداً ينادي بصوتٍ تهدّج: "ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به". اهتزّ الملك أيّما اهتزازٍ للنداء، وخرّ معانقاً زهيرته، مودّعاً. ثمّ خفق بجناحيه ويمّم وجهه إلى مصدر الصوتِ، فهاله ما رأى. 

هبط بادئاً في بلدٍ اسمها "غزّة". لم يجد فيها ماء العيون الذي يطفر حين يكون الفرحُ زائداً، لكنّه وجد دمعاً كثيراً لم يدرِ ما يُفعَل به. 

ماج بين ركامٍ وركام. خفق جناحه الأيمن بلطف فوق نوم الأطفال في الخيام. مسحَ على قلبِ امرأة تحمل نتفاً من قميصِ ابنها، تشمّه كما يحبّ الملك أن يشمّ قلبَ قلبِ زهيرته حين يخاف منها ذبولاً. مسحَ على قلبها، فلم يلتئم، فهاج قلب الملكِ فزعاً وحزناً، حتى كأنه أراد الموت. 

"ربنا ولا تحمّلنا".. نادى منادٍ. طفق الملك متثاقلاً إلى بلادٍ يقال لها "ضاحِية"، وفهم من السحب القريبة أنها كانت ملجأ للمنفيين والخائفين. "ليس للجنّة من ضواحٍ"، فكّر الملك، "كلّها جنّة". 

تخيّر الملك من حجارتها المتهالكة أثقلها، فرفعه. لم يدرِ إن كان خفّف من الأحمالِ شيئاً، لكنّه خبأ الحجر تحت جنحه. ثم سمع صوتاً ينادي: "ربنا..". 

حمل حجره وطار به جنوباً، إلى أرضٍ يقال لها "عامِلة"، أعجبه اسمها. هبط فيها على قلبِ شابٍ وحيدٍ تربّص به عدوّه وعدوّ الله، فرأى أن يُدني إليه الشجر والحجر. رأى أن يجلسَ قليلاً قربه، قُربَ كفّه الذي يقطر دماً. تذكّر وجه زهيرته الأحمر في روضها. شيءٌ فيه يذكّره بها. قرّر أن يبقى قليلاً بعد. رأى الرجل الجميلَ يهوي إلى الأرض. صاح الملاك إلى السماء: "ربَنا.. ربّنا.. ربّنا.. ولا تحمّلنا ما لا طاقةَ لنا به". 

 

الصورة: من كتاب النشيد الجسدي (1979) - رسم ضياء العزاوي

____________________

* من رواية "لا تنبتُ جذورٌ في السماء" (1971)، للكاتب يوسف حبشي الأشقر

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button