لم ينفذِ الهواءُ من رئتَيْ بسّام سابا لكي تُعلَن وفاتُه. بقيَ فيهما الكثيرُ من الهواء. فموتُ هذه الآلةِ الأنسيّةِ الرّهيفةِ لا يقاسُ بهمودِ النّبضِ وتوقّفِ عملِ الدّماغ. لا يا دكتور! فلو لفظَ بسّامُ أنفاسَهُ الأخيرةَ، دفقاً متواصلًا واحدًا مثلما يفعلُ البشرُ، لهبَّتْ عاصفةٌ من النّغماتِ والألحانِ الّتي لم يعزفها بعد.

تخيّل يا دكتور، كم من الألحانِ يخزّنُها صدرُه. ألحانٌ يسمعُها الشّخصُ الّذي يعانقُه ويضمُّه الى صدرِه في لحظاتِ وداعٍ بالمطار. الألحانُ في صدرِه، يا دكتور، مروّضةٌ وأليفةٌ وتكون غالبًا هادئةً، لكنّها أحيانًا تهتاجُ فجأةً مشتاقةً إلى أختِها الرّيحِ الجامحة. تخيّل تلكَ الألحانَ كلّها تقتحمُ أذنَيْك ودماغَك دفعةً واحدةً مديدةً، لكانت آذتك شرَّ أذيّة. لكنَّ بسّام لا يؤذي انسانًا ولا حيوانًا ولا شيئًا ولا جمادًا. ولذا، حبسَ الهواءَ في رئتَيْه.

دعني أقصُّ عليكَ ومضاتٍ من سيرتِه لا لتغيّرَ رأيَك وتتراجعَ عن إعلانِ الوفاةِ، أساسًا هو لن يعود. هو وجدَ مستقبلَه الّذي تكهّنَتْ به أمُّه الهنيّةُ ديليا. وذهبَ إليه في وقتٍ يضمحلُّ مستقبلُنا ويتلاشى. راحَ ليمشي على القمرِ معها ومع أخيه أندريا إذا لم يكن منشغلًا بإنهاءِ اللّوحاتِ الّتي تركَها ناقصةً لمّا غادرَ الأرض. وقد لا يسيرُ معَ أبيه أنطون لبقائِه محاطًا بدخانِ سيجارتِه الّتي لا تبارحُ الطّرفَ الأيسرَ لفمِه، فتبقي عينَه اليسرى مغمضةً ودامعةً بينما يعزفُ على العودِ أو يصلّحُ سيّارتَه الـ "دي كا فيه"، DKV، الألمانيّةَ الّتي اقتنى منها اثنتين.

علاقةٌ غريبةٌ تربطُ بسّامَ بالمُثنّى الّذي يظلُّ يستحيلُ مُفردًا. كانَ دائمًا ثمّةَ أمرٌ من اثنينِ يحيا على حسابِ الآخرِ: عينا أنطونَ تلكَ المفتوحةَ وتلك المغلقة. وسيّارتاه تلكَ الّتي يقودُها وتلكَ الّتي ينتزعُ قطعَها ليحيي بها الأولى. وديكاه. ديكاه الكبيرُ والصّغيرُ، في حديقةِ منزلِهم في بلدةِ مجدليّا بينَ طرابلسَ وزغرتا قبلَ أن تلوكَه حربُ الـ75.

الدّيكُ الكبيرُ مستكبِرٌ ومستبِّدٌ والصّغيرُ هزيلٌ ومستضعَفٌ، ظلَّ طوالَ حياتِه محرومًا من الأكلِ إلا في حمايةِ الدّجاجاتِ، ومحرومًا من معاشرةِ الإناث. ذاتَ يومٍ، ذُبح الديكُ السمينُ لتقديمِه طبقًا في مناسبة. عندما همدتْ جثّتُه بعدَ رقصتِه الأخيرةِ، دنا منها الصّغيرُ بخوفٍ ونظرَ يمنةً ويسرةً ونَقَدَه بقوّة. فلمّا تأكّد من موتِه، طارَ إلى سطحِ القنِّ وراحَ يصفّقُ بجناحَيْه ويصيحُ بأعلى صوتِه…

"حتى انفجرَت رئتَيْه ومات،" كما رواها بسّامُ، مضيفًا "لم يتحمّل تلكَ الجرعةَ المباغتةَ من الحريّة." ثمَّ تابعَ تمرينَه على مقطوعةِ "ساراباند" لباخ، وهي صولو للفلوت نشرتْ السوبرانو غادة غانم فيديو له يعزفُها قبلَ أسبوعٍ على إصابتِه بالكورونا المستجدّ.

شاهِدوه لتتعرّفوا على بداياته. هكذا كانَ يعزفُ، شاردًا يرعى النّغماتِ في الأثيرِ، وبوضعيّةٍ جسمانيّةٍ وتمايلاتٍ لم تتغيّرْ منذُ أكثرَ من 40 سنة. كانَ ينفّذُ كلَّ التّمارينِ لڤيڤالدي، سانْ سانْس، ديبوسي، هنديميت، موزار، بولانك، هاندل، هايدن… ويُنهي بمقطوعةِ "سويت رقم 2" لباخ، الجزءُ الفرِِحُ السّريعُ "بادينيري". صوتٌ يناديه: "بسّام، تعالَ كُلْ بيضًا مقليًّا مع كورند بيف." فيجيبُ مسترسلًا بعزفِ جُملةٍ أو بتمرينٍ على سلّمٍ شرقيٍّ يعزفُه بالفلوتِ الغربي. وكانَ لا يتوقّفُ عن التّمرينِ حتّى يسيلَ دمعُ الفلوتِ على الأرضِ أو على رأسِ أحدِهم مستلقٍ تحتَ الفوّهة. ثمَّ ينظرُ بسّام إلى المقلاةِ الممسوحةِ مسحًا مُبينًا فيعرفُ أنّه تأخّرَ كثيرًا. يتوجَّه إلى الثّلاجةِ ليتناولَ الجبنةَ مع المربّى أو مع البطّيخِ الأحبِّ على بطنِه.

ذلك العبقُ الموسيقيُّ من آلة الفلوت والنّاي وأوتارِ عودِ إيليا أخيه الأكبرِ، كانت تنضحُ به جدرانُ ونوافذُ "الشّقّة 3" في الطّابقِ الأوّلِ لمبنىً يقعُ في الطّرفِ المتواضعِ لمنطقةِ الرّملةِ البيضاءِ ببيروت.

كلُّ شيءٍ داخلَ تلكَ الشّقّةِ الصّغيرةِ كانَ فنًّا: أسطواناتُ التّسجيلاتِ الموسيقيّةِ الكلاسيكيّةِ والعربيّةِ والغربيّة. كتبُ المكتبة. الآلاتُ الموسيقيّةُ الّتي كان استعمالَها متاحًا لكلِّ من يودُّ المساهمةَ في العبقِ الموسيقيّ. لوحاتُ أندريا المكتملة. وكلُّ شيءٍ في محيطِ تلكَ الشّقّةِ كان ثقافةً وفكرًا، قصرُ الأونيسكو، كلّيةُ التّربية، حسين مروة. المركزُ الثقافيُّ السّوفياتيّ. تلفزيونُ لبنان.

وقد دارَ اسمُها، "الشّقّة 3"، على ألسنةِ كثيرة. وهي شرّعَتْ أبوابَها للرّفاقِ والرّفيقاتِ الفنّانينَ والمثقّفين. كما استقبلتْ "ثنائيَّ حبِّ مصرَ" عدلي فخري وسمير عبد الباقي مع الفلّاحين الّذين "بيغيّروا الكتّان بالكاكي ويغيّروا الكاكي بتوب الدم". العراقيّ جعفر حسن صاحب "لا تسألني عن عنواني / لي في كلِّ العالم عنوان". سهام ناصر الّتي سبقتْه إلى السّماءِ وتتلهّفُ الآنَ لتعثرَ عليه. فايق حميصي ومارسيل خليفة الجاران القريبان في المبنى المقابل مع محمد دكروب. ميشال خير الله. فيصل فرحات. إميل منعم. بطرس روحانا. طوني وهبي. عصام الحاج علي وتوفيق فروخ… أوووه كُثرٌ كثر… أخته ماري وأخوه نقولا.

آه… توفيق فروخ له حكايةٌ "تقنيّةٌ" مع بسّام. ذاتَ يومٍ في استديو الاتّحادِ، كانَ يجري تسجيلَ كلماتِ المقطوعاتِ في شريطِ "أغنية" لفرقةِ الأرض. زيّاد الرّحباني المنهمكُ بتنظيمِ أداءِ الكورسِ، يجْمدُ فجأةً ويسحبُ كرسيًّا يقفُ عليهِ ويقرِّبُ وجهَه من وجهِ توفيق واضعًا أنفَه على أنفِه. ثمَّ يسألُ الحضورَ المستغرِبَ حركاتِه: "أيّ أنفٍ أكبر؟" القهقهاتُ المدوّيةُ غطَّتْ على الإجابات، ولعلَّ الرّحباني لا يزالُ يجهلُ الإجابةَ حتّى الآن.

وصلت هذه السّالفة إلى بسّامَ الّذي ابتسمَ وباحَ بأنّه معجبٌ بأنفِ توفيق، لأنّ "هاتينِ الرّئتينِ حتّى تمتلئا جيدًا" وربّّتَ على صدرِه، "بدُّن هيك منخار". لم تكن العلاقةُ بين هذينِ المحترفينِ الرّقيقينِ تقنيّةً بالطبعِ، بل أقربَ إلى تراقصِ يمامتينِ في الجوِّ، ففي الأعمالِ الّتي شاركا فيها، النّوتاتُ الّتي ترتفعُ من فلوتِ بسّامَ وتهوي، كانَ توفيقُ يتلقّفُها بساكسوفونِه ويجعلُها تحلّقُ من جديد.

منذُ ذلكَ الوقتِ وفي تلكَ الشّقّةِ البرّيّةِ والرّحبةِ رغمَ صغرِ مساحتِها، كلُّ شيءٍ كان يشي بأنَّ بسّامَ سيذهبُ بعيدًا، لكنَّ أحدًا لم يتوقّع أن يبلغّ السماء.

إنّه المُثنّى مجدّدًا، لكن يبدو أنّ بسّامَ، هذه المرّةَ، رفضَ استحالةَ هذا المُثنّى إلى أحدِ مفردَيْه، فاختارَ دربًا ثالثة. فالرّجلُ النّبيلُ وجدَ نفسه بينَ نيويوركَ حيثُ نثرَ بذورَ الموسيقى العربيّةِ وأنبتَها، وبينَ بيروتَ الّتي تحتاجُ الى عقلِهِ وقلبِهِ لينهضا بمؤسّستها الموسيقيّةِ الوطنيّة.

فاختارَ بيروتَ ليسَ من حبٍّ فحسب، بل أكثر. اختارها من حاجةٍ بيولوجيّةٍ لديهِ كإنسانٍ ستّينيٍّ إلى توريثِ ما توصّلَ إليه في كونِ الموسيقى وأصولِها وتمريرُه إلى أجيالٍ جديدةٍ بكلٍّ صدقٍ ومحبّةٍ وسخاء. وهو ما شكّلَ مصدرَ الحزنِ العميقِ لكلِّ من عرفَه سابقًا وحاضرًا.

إبّان الحربِ الأهليّةِ السّالفةِ، خاضَ بسّامُ معاركَ شرسةً ضدَّ إفرازاتِها. كانَ يصدُّ بالفلوتِ والنايِ دويَّ القصفِ والرّصاصِ والقتلِ، كلّما اقتربَ من "الشّقّة 3". كانَ يقيمُ حولّ الحيِّ كلِّه درعًا صوتيًّا يسكِّنُ به النّفوسَ الهلِعة.

اختارَ دربَ السّماءِ لئلّا يستحيلَ مثنّىً حياتِه إلى أحدِ مفردَيْه نيويوركَ أو بيروت. ففي نهايةِ المطافِ، كلتا المدينتينِ حياتًه. فقرّرَ بسّامً بجرأةٍ أن يترك حياتَه تستمرُّ من دونِه.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button