كان زملاء رامي في الصف الخامس ابتدائي يعيّرونه بجدّه عبد اللـه لأنه خرفان. كان ينزعج مما صار يّعرف بالتنمّر… كثيرا، ولكنه كان يصبر. تعلّم الصبر لكثرة ما انتظر جدّه ليستأنف الحكاية التي كانت تعلق في ثنايا دماغه المنخور. وفي كل مرة يشرد فيها جدّه، كان الصبي يشعر بأن الراوي يحاول قول شيء ما، بالتعبير وليس بالكلام.

كان عبد اللـه في وقت سابق يروي لحفيده الحكايات كلما سنحت لهما الفرصة. حكايات كان الجد حفظها من الأدب الشعبي وأخرى يرتجلها تدور حول أشخاص من يومياتهما يعرفانهم جيدًا. وهذه كانت تؤنس رامي وتضحكه كثيرًا، خصوصا حكاية "أبو منخار"، جارهما القريب، ابراهيم هلّون، الذي كان أنفه ضخمًا بالفعل. وكان رامي يُعجب لقدرة جده على ايجاد وجهات استعمال مختلفة للأنف العظيم في كل حكاية. لمّا كبر الحفيد جمعها في حكاية واحدة صار يحكيها لأولاده.

بدأ رامي يستشعر خطبًا ما في جده. ازدادت قلة تركيزه وصار يكثر الشرود والتحديق في نقطة محددة في الفضاء بينهما.

للوهلة الأولى، ظن رامي أن جده يحاول استعادة مواقف أو ارتجالها قبل أن يكمل السيرة، لكن شرداته كانت تطول. ولم تكن محاولات رامي في تذكيره بها تفيد بتنشيط ذاكرة الجد، فيبقى جامدًا حتى يصحو ويستأنف وجوده. 

وفي إحدى صحواته، قبل تمكّن الألزهايمر من نخر دماغه، أمسك عبد اللـه العجوز بزند رامي بشدة أوجعته، فصرخ من الألم، مستغربًا العنف الفجائي للجد اللطيف الذي قال له محذّرًا: "رامي احفظ كل شي بتشوفه وخبّيه هون،" ودلّ على رأسه.

بعدها، راح إلى المجهول من دون أن يعطي رامي أي تفسير.

غاب عبد اللـه في الشرود، لكن حضوره كان يعود إليه والتفاته إلى من حوله في أوقات … أوقات الأكل مثلا حين يتذوق طبقا يعجبه. يستلذ بطعمه وتخاله يعود إلى طبيعته. تخاله يعبّر عن شيء ما، بما يوحي بأنه على وشك مخاطبتك إلا أن النخور في دماغه تمنعه عن الكلام. فالنخور هي أطلال المواضع التي كانت تقيم فيها ذاكرة الكلمات.

وثمة أمر آخر كان يفعله الجد لم يفهمه رامي إلا لاحقًا عندما صار هو بدوره راويًا: مع استفحال المرض، بدأ عبد اللـه الخرفان يتّخذ وضعيات جسمانية غريبة ويتنقل بينها كأنه يقدّم للمحيطين به مشاهد إيمائية بإيقاع مبعثر… يلملمها من ذاكرته البصرية.

مات الراوي عبد اللـه، بينما كان الراوي الشاب رامي يواجه أقداره في الحياة. لم ينسَ جدّه وظل يربّي الراوي الذي نما في داخله.

في إحدى سفراته، صودف مروره قرب معرض رودان في باريس. كان قرأ أن هذا الفنان قال إنه يزيل عن كتلة الرخام كل ما لا يحتاج إليه. وهو ما أثار فضول الشاب، إذ وقع نظره على تمثال "المفكر"، تمثال كبير يقبع في باحة المعرض. فتساءل بشيء من السخرية: "أوه، لا بد أن ما كان لا يحتاج إليه رودان كان كثيرًا لكي ينحت تمثلاً ضخمًا كهذا." ثم دخل المعرض… وافتتن بالأعمال المعروضة.

وفي إحدى الزوايا، كانت الـ "كرياتيد المنهارة حاملةً حجرها". وقف مذهولاً أمام قوة تعبير المرأة التي تتّقي ثقل الحجر الساقط على كتفها. مغمضة العينين تئن من الألم ولعلّ جسدها يرتجف وهي تحاول دفع الحجر الثقيل عنها. صبورة في منتهى الصبر تبدو انها لا تستعجل نهوضها. و"الصبر،" كما يقول رودان نفسه، "هو أيضًا شكل من أشكال الفعل."

والفعل، بالفعل، كان يعتمل ويعرُم من الخلف، فظهرها الأملس يكشف عن قوة عظيمة كامنة توحي بأن المرأة تستعد للنهوض والانتصاب كالرمح مثلما كانت قبل انهيارها.

صعقته دقة تعبير هذا التمثال لامرأة جسدها غض، انوثتها صارخة كالقوة الكامنة فيها. إنها تقاوم بصبر.

وما هي الكرياتيد؟ هي امرأة من حجر ترتدي ثوبًا طويلاً تقف مع عدد من مثيلاتها وعلى رأس كل منها تاج حجري، يرتكز عليها أفريز سقف المعبد. هي إذًا أعمدة، ركائز. 

صوّرها رودان، فى١٨٨٣، منهارة لسبب مجهول، ربما لشدة إعيائها من حملها، طويلاً.

لم يبارح رامي مكانه. جمد ثم انهار باكيًا جنبها، إذ مر في ذاكرته شريط الوضعيات الجسمانية التي كان يستعرضها جده عبد اللـه الخرفان: إنها وضعيات لكرياتيدات بشرية منهارة أيضًا رآها جده حين أرغم على التجنيد الاجباري مع الأتراك إبان الحرب العالمية الأولى. واستطاع الهرب من القطار الذي يقلّه إلى الآستانة.

وخلال عودته إلى قريته في لبنان، تعرض لما تعرّض له حنا يعقوب في رواية "دروز بلغراد" لربيع جابر، ولكنه لم يُعتقل. غير أن حظه، أثناء فراره، كان أن يشهد على انسحاق البشر تحت الحجر وقد أرداهم كرياتيدات منهارة.

ارتعد الراوي رامي عندما فكّر بما سيعرضه أمام أترابه عندما يصاب بالخرف. والإصابة بالخرف في ايامه قد لا يكون سببها الألزهايمر إنما زحمة شديدة من الصور المهولة لأجساد وأشلاء مسحوقة، يعجز عن تصريفها العقل، فتتسبب بتعطيل النطق.

ابتسم رامي راضيًا إذ أدرك أن الكرياتيدات المنهارة التي سجّلها دماغه هي لنساء غزة الصامدات يحملن أحجارهن مع قوة كامنة في ظهورهن، ينتظرن بصبر وقت انتصابهن كأعمدة ليعدن بناء معبدهن. 

وفي إعادته لتعريف الحكاية، يقول رامي "هي سيرة منطوقة بالأفعال تجذب انتباه الجمهور وتحفز خياله وتعيد إليه إنسانيته."

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button