"ڤي، ڤي، ڤي... إن لم يكن لديك طبقة من التيتانيوم حول جمجمتك، ستواجه مشاكل في الذاكرة قريباً". محادثة من لعبة الفيديو "سايبربانك 2077" بين المدرّب فرِد وڤي عن رياضة الملاكمة.

آخر شيء أتذكره من تلك الليلة كان طقطقة ملقط صاحب عربة الذرة تحت بيتي، كان مارًّا فقط، طقطقته راحت تتلاشى، ثم لا أذكر شيئاً، سوى أن تركيزي عاد إلى ما كنت أفعله، اللعب بشخصية ڤي (V)، وبعد ربما ساعات قليلة لا تتجاوز الأربعة، أستطيع أن أقول إنني وصلت إلى مكان في اللعبة فتحت له عينَي أكثر ممّا تستطيعان، كان الجزء الأبهر في اللعبة كلها.

كان عليّ أن أنجز مهمة، أودتني إلى دخول نادي ليلي لأتحدث إلى جودي التي ستعرّفني إلى تكنولوجي "برين دانس (Braindance)"، تمكّن المرء من تسجيل تجربة شخص في موقف معين، وهذا التسجيل قابل للإعادة، إي إن وضعت الشريحة المسجّل عليها التجربة بجهاز حول رأسي مزوّد بعدستَين صغيرتَين تغطيان عينَي، أستطيع أن أخوض التجربة كما هي، أسمع وأرى كل شيء، أشعر بكل ما يشعر به صاحب التجربة في تلك اللحظة، أعرف بما كان يفكّر، وحتى بما كان يحسّ داخله وخارجه، إن لمس أو شمَّ شيئاً.

التجربة في المهمة الأساسية من بدايتها إلى نهايتها جعلتني عطشاً أكثر، أريد المزيد، وكما يقال "السمع ما متل الشوف"، لن أصل إلى اللبّ مهما حاولت أن أتوسع بالشرح عن "برين دانس"، فهي فعلياً شيء يختبَر، يُعاش، كنت أطير في ذاكرة شخصية من لعبة الفيديو، وقادراً على معرفة كل شيء، لكن عندما انتهيت من المهمة حدث شيء غريب معي (الغريب حقاً الآن أنني في هذا النص عندما أتكلم عن تحركات ڤي باللعبة، أصوغها بصيغة الأنا، وكأنني أنا من داخل اللعبة)، وحين حدث كانت الساعة...

2:48 بعد منتصف الليل

وأنا أتجول في "نايت سيتي" عرفت أنني أستطيع شراء شرائح مسجّل عليها تجارب الآخرين من تاجر غير شرعي، حيث "ـبرين دانس" أخذت منحى المخدرات للبشر، هناك تجارب عنيفة وغير اعتيادية يودّ البعض الحصول عليها، أو حتى عادية ومسالمة لعائلة تعيش بالريف، تصل إلى حد الإدمان وتأخذ وظيفة المَخرج من العالم القاسي، وبالطبع فضولي لن يتردد لحظة في التحدث إلى ذاك التاجر، لأرى ما عنده، فقد تناسيتُ المسار الأساسي للعبة، وأخذت مساراً آخر، وددت أن أجرب كل الشرائح الموجودة.

عرفت أين مكانه ووصلت إليه، يستند إلى جدار يرتدي نظارة شمسية، تاجر كلاسيكي، طلبت منه أن يريني ما يملك من شرائح، وفتحت لي الشاشة قائمة طويلة، للوهلة الأولى، صُدمت من طول القائمة، ثم تذكرت كم سيسليني الأمر، وبينما أقلّبُ بالشرائح، ذُهلت، ماذا يعني هذا؟ رحت أرى شرائح من ذاكرتي، أنا، أشياء حصلت معي، معظمها أعتبرها لليوم أنها مربكة ولم أستطع تحليلها وفهمها، رغم أن بعضها حدث قبل خمس عشرة سنة، مثل الشريحة التي بعنوان...

يوم لم يعرفك والدك

شعرت بشيء بارد في معدتي، أسندت رأسي إلى الكرسي وفكرت لبرهة في الأمر، هل أود حقاً أن أعرف لغز ذاك اليوم، حين كنت مراهقاً، أتوكّل بإدارة مقهى للإنترنت، ورديتي كانت من الثانية عشرة ليلاً حتى الثامنة صباحاً، واستقصدت هذه الوردية، كنت أود أن أكون لوحدي بينما أخلق من جديد في المدينة، هم ينامون ليلاً وأنا أبقى، هم يخرجون صباحاً إلى أعمالهم وأنا أعود إلى سريري.

واحزروا.. نعم، تجرّأت على وضع الشريحة في آلة "برين دانس" التي بقيت معي.

سيلٌ من ضوء ساطع أعماني للحظة كأنني غبت عن الوعي، وأخذتني الشريحة إلى أحد صباحات تلك الفترة من حياتي، كنت عائداً إلى البيت لأنام، وصلت رأس الحي ماشياً، فألاحظ أبي يخرج من البناء متوجهاً إلى عمله، رأيته لكنه لم يرني، كان يدير ظهره ليغلق الباب، وفي كل لحظة كنت أقترب منه هو ما زال مكانه، ليلتفت في النهاية ويبدأ المشي.

ومجرد أن صرت في مسافة كافية لنتواصل فيها، وجّهت نحوه وأنا أنظر إلى وجهه فوراً: "صباح الخير"، لكنه لم يرني، لم يحرك عينيه أو رقبته، لم يسمعني، لم يشعر بي أبداً، فقط أكمل طريقه، ووقفت أنا أنتظر أن ينتهي من ممازحته، إنه يمازحني لا شك، في أي لحظة سيستدير ويضحك عليّ.

في هذه اللحظة أوقفت التسجيل، أرجعت الشريط إلى الوراء قليلاً، حين صبّحت عليه ولم يردّ، وصرت، كما تعلّمت من جودي، أختار بين أي طبقة أريد أن أخوض، أن أعرف بما كان يفكّر أبي، أو بما كنت أنا أفكر؟ أن أعرف بما شعر أبي، أو بما كنت أنا شعر؟ أن أعرف بما كان يحس أبي، أو بما كنت أنا أحس؟ كان اللغز الذي أريد أن أحله طوال عمري، هو أن أعرف هذه الأمور عن أبي وليس عني، لكن أعرفُ أيضاً أنني لم أفهم أبداً أنا بما شعرت، كان شعوراً جديداً لم أخبره من قبل.

يا لها من معضلة.. أسندت رأسي مرة أخرى وأخذت أفكر، بما أحسست ذلك اليوم، كمراهق بدأ يرى الحياة من منظور آخر، والشكوك بدأت تسكن رأسه، حول المدينة والعائلة والصحبة والغرائز والنظام، وكأن هناك خلعاً يحدث له، بينما يريد أن يتمسك بأي شيء من طفولته، حين كان يشعر بالأمان وبساطة الأمور، وأعتقد أن المراهق الذي كنته يريد أن يحصل على ذلك الاعتياد من أقرب الناس، في تلك الفترة على الأقل، وهي العائلة، الأب أو الأمّ.

إذاً الحل الوحيد أن أخوض "برين دانس" تلك اللحظة، أن أطوف حول شعور عميق ولدَ من داخلي، رأى نوراً، وأنا كنت مثل من تلقى لكمة من العالم، هكذا خرج مخلوق ضخم يلبس كفَّي ملاكمة، ومن دون تردد أو تحذير لكم رأسي، وجمجتي ليس مغطاة بطبقة من التيتانيوم، كنت مراهقاً لا أقوى على الاحتمال، فسقطت بقوة، وراحت ذاكرتي، تجربتي، إحساسي عني، شعرت باللكمة وأثرها مرة أخرى، لكن التكنولوجي مكّنتني أن أرى اللحظة الأولى التي أحس بها بأني... أوف، يا لها من لعبة، جعلتني أفهم اللحظة الأولى التي شعرت بها أنني الغريب.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button