"عندما يضيق الحبل على رقبتك، تستطيع الشعور بلسعة إبليس"،

من فيلم The Good, the Bad and the Ugly.

يا له من مكان مقفر، حارّ، الوهج ينبعث من جميع أنحائه، والرمل الخشن يسكن كل شبر فيه، حتى الأسرّة والوسادات والطعام فيه رمل، عيناي دائماً حمراوان بسبب هذا، ولم أعد أذكر متى كان آخر يوم لم أتعرّق فيه، العرق يخرج من كل مكان، من فروة رأسي، من بطن كفّي، من وجنتَي.

الناس هنا تقاوم هذه الظروف بأخذ غفوة أو غفوات في اليوم الواحد، وبأكل القش الذي يجعل المرء مترنحاً، يوجد الكثير منه، لهذا لم يجرّب أحد تسليعه بعد ، إنه منتشر لدرجة أنه يخرج في زوايا البيت، ويجفّ فوراً، بساعات قليلة، دون أن يثير أي انتباه، يصبح أصفر، يصبح قشاً، ومن يمضغه يجد نفسه قد أصابه ارتخاء، في البداية يمد ساقَيه ويسند ظهره إلى الجدار، بعدها يمدّ كل جسده، ويغفو، وعندما يستيقظ سيجد أن الحر قد سلقه، وأنه يسبح في عرقه، والرمل ملتصق على شفتيه، والذباب يأكل من جلده.

ومع كل هذا، يا له من مكان مقنَّن، أي فعل يقابله طريقة معيّنة، إن أردت أن تشرب عليك أن تشرب بطريقة معيّنة، لتتمشّى عليك أن تسلك مماشي معيّنة، إلى آخره، وفي حال المرء لم يَقُم بالطريقة المتوقعة منه، يُحاسَب، إلا أن المشرّعين أكثروا القوانين وخفّفوا الأحكام، لا تتجاوز سنة واحدة في السجن، بأسوأ الأحوال، لكنهم حرّموا بضعة أشياء تحريماً صارماً، لا تهاوُن فيه.

وأنا عالق هنا في إسطبل ضيّق، مع راضْ الذي يغفو قبالتي من كثرة تناول القش، وبسببه أنا موجود هنا، وأيضاً طاحون، يتكوّر بفروه البرتقالي في قبّعتي وتبدر عنه حركات كأنه يحلم، وبسببه أيضاً أنا موجود هنا. لست أحاول لومهما، كنا كلنا نعرف أن هذا اليوم سيأتي، أنهم سيكتشفون أننا كنا طوال هذا الوقت نعصي القانون ونرتكب المحرّمات، لاقتنائنا مسدسَين وهرّ وخروجنا خارج المدينة الصفراء هذه في الليالي.

لا أعرف كيف يستطيعان النوم، أقصد أعلم أن القش يساعدهما، لكن لا وجود لأي منفذ هواء في هذا الإسطبل، سوى شقوق الباب التي تكاد لا تلاحَظ، أختنق من القيظ، أستطيع أن أعصر العرق من غرّتي، وهذا الشعور قد يكون نعمة، إنه يشغلني عمّا ينتظرني، لا أعرف تماماً متى سيتم الأمر، لكنه سيتم، بالتأكيد، لن ينسونا، بل يتشوّقون إلينا. يلزمهم في هذه المدينة ما يعطيهم حدثاً يكسر لهم روتينهم، بدل الغفوات وعلك القش والتهوية بقبعاتهم وكش الذباب عن وجوههم.

أختنق، إلا أنّي لا أتذمّر ممّا ينتظرني، أستحقه، عملت جاهداً لنيله، ذاك الذي يغفو قبالتي، أفتخر أنه اختارني من بين كل المشرّدين في القرية، ودعاني إلى منزله، ثم وثق بي فكشفَ لي كل أسراره، أخرج مسدسَي الطاحون ثم أعطاني واحداً، لكي نخرج في الليالي ونقوم بالمبارزات بعيداً: يقف كل واحد منا ظهره إلى الآخر، نمشي بضع خطوات ثم نستدير اتجاه بعضنا، وندّعي إطلاق النار، كما عرّفني إلى طاحون، الهرّ الذي أدمن القش أيضاً، حيث لا يوجد شيء آخر يتغذى عليه، فحتى الفئران هجرت هذه المدينة. لا أحد يأتي، لا أحد يذهب، كأنها أُلغيت من الخارطة، ولا نعرف ماذا يحدث في العالم، قد نكون آخر الباقين.

إلى أن أتى ذاك اليوم، صَحَونا من الغفوة متعرّقَين، أبصق الرمل من فمي، وراضْ يلسع جلده بكفّه يحاول قتل الذباب، لنجدَ أن طاحون قد اختفى، فجنّ جنون راضْ وراح يصيح إن وجدوه سيقتلوننا، سيعلقون مشانقنا، جميعنا، أنا وهو وطاحون، ثم قلّل من صياحه كي لا يسمعنا أحد، وأخبرني أن عليه الذهاب وإيجاد طاحون قبل أحد آخر. وهذا الفعل وحده، البحث عن طاحون، ارتكاب لمحرّمة أخرى غير كل المحرّمات التي كنا نرتكبها، حيث ربما سيضطر الابتعاد عن القرية، ولن يستطيع العودة قبل وقت التفقد، وسيعتبرونه أنه في الخارج، يغامر.

أوصاني ألا أتبعه، أن أبقى هنا، في حال عاد طاحون، لكن عندي فضولاً، أن أرى أين يذهب عندما لا أكون معه، أعرف أن راضْ مغامر عتيق، لكنه لم يأخذني يوماً معه إلى مغامراته. كان يذهب من دون إشعار مسبق ثم يعود، حتى قرّر طاحون الفرار، فذهب وتبعته، لأنضم إلى مغامرته الطويلة العريضة، التي ما زالت مستمرة حتى اللحظة، وهو يغفو بطريقة ستسبّب له ألم رقبة، لكن ما الذي يهم الآن؟ النهاية قد شارفت، والمغامرة انتهت، وآلام الرقبة ستنتهي، وأيامنا المملة ستنتهي أيضاً.

رغم هذا، لا أحمل أي أسىً اتجاهنا في قلبي، بل العكس، فقد رأيت وأخيراً العالم ذاك، الذي لم أعرف عنه إلا من قصص راضْ التي كان يرويها لي، بينما يجلس طاحون في حِجري أداعبه، لكن كنت أتمنى لو ننهض الآن ونقوم بالمغامرة الأخيرة، أن نموت مغامرين ونحن نحمل مسدسَينا، نطلق الرصاصات على هؤلاء المنتظرين في الخارج، حيث إن هلكوا أو عاشوا لن يلاحظ ذلك أحد في العالم. كم أود أن نموت هكذا بدل أن نكون عالقين في الإسطبل الضيق هذا، نمضغ القش ونتفُلُ الرمل ونُسلَق من اللهيب. 

كم أود أن أنهض الآن، لأركل ساق راضْ بقدمي، وأنكز طاحون بإصبعي، أن أصرخ بهما ليستيقظا، وأستمتع بمشاهدتهما يتذمّران وعيونهما حمراء من الغفوة المرهقة، وأقول لهما أن يستغنيا عن الخنوع، ولنرسمَ خطة ننقضّ عليهم بها حين يدخلون، ثم نهرب، نسترجع مقتنياتنا وحصانَينا، وننطلق بلا رجعة. لكني أعتقد أن الأمر صار مستحيلاً، ها هو الباب يصدر عنه ضجيجُ أنه يُفتَح، والمشانق قد عُلقت، ووجه راضْ يظهر من تحت قبعته منقبضاً، وطاحون يتمطط ويتثاءب داخل قبعتي. 

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button