في ظل الأزمات والانفجارات والانهيارات العالميّة والمحليّة المتتالية، لا ننفك نسمع جملة أنطونيو غرامشي الشهيرة تتردد كالصّدى (والتي ردّدها أحد المبعوصين النيوكولونياليين في بيروت مؤخرًا): "عندما يبدأ العالم القديم بالاحتضار وتحين ولادة العالم الجديد، تولد ظواهر متوحشة". هذه الجملة تُجسّد حاضرنا المتشتّت وتصحّ أيضًا لوصف واقع بطلة فيلم "كاري" للمخرج الأميركي براين دي بالما (1976, Carrie). وكاري مراهقة مختلفة غريبة، تحاول النجاة بحياتها نفسيًّا وجسديًّا وتحرير نفسها من الهلوسات الدينيّة. الّا أنها تصطدم بواقع مجتمع ظالم أحال ضحيّة حالمة الى وحش منبوذ. 

كاري وايت فتاة شقراء خجولة في السادسة عشرة من عمرها. صبورة بطبيعتها وقادرة على تحمّل ما لا يتحمّله إنسان. رفاقها "الكول" في "الهاي سكول" يهزؤون منها باستمرار لأنها لا تجيد الرياضة ولا تحب المنافسة، ولأنها أُعجبت بقصيدة تلاها الأستاذ في الصف، وعل عكسهم، تخيط ملابسها بدلًا من شرائها. ومدير المدرسة يخطئ دائمًا في لفظ اسمها. هي مكسر عصا جميع من حولها. 

وينفجر هذا الكره تجاهها في واحد من المشاهد الصادمة واللافتة في سينما تلك الحقبة. مشهد يبدأ بجوّ من الايروتيكية الحميمة، وفيه تستحم كاري مع باقي زميلاتها في حمام المدرسة بعد حصة الرياضة. وبينما تتساقط قطرات المياه على جسدها تسرح معها على الأرضية فجأةً قطرات من دمها. تظن كاري أنها تحتضر، فترمي بنفسها مذعورة بين أحضان رفيقاتها، لكنها لا تجد من يواسيها أو من يشرح لها ما الذي يحدث. الجواب الوحيد هو العنف والسخرية وأقسى أشكال العداء. 

تتحمل كاري مجتمعها، لكن مجتمعها لا يعاملها بالمثل، بل يُعلمها بشتّى الطرق أن لا مكان لها فيه. فتهرب من المدرسة إلى البيت والعائلة علّها تجد الطمأنينة والحماية والحب. لكنها تجد نفسها تنتمي إلى عائلة قمعيّة ظالمة، ومنزل يعجّ بالأيقونات والصلبان ولوحة العشاء الأخير التي تراقب، كـ "البانوبْتيكون"، حركتها في المنزل. وتجد على رأس هذا العالم الصغير أمًّا وحيدة متزمّتة، عاجزة عن حماية ابنتها أو إظهار حبّها لها - ومستعدّة لتدمير ابنتها. فيظهر في هذا المنزل أصل القمع والكبت التي تعانيه كاري. تعلم الأم بـ "الكارثة" في المدرسة، فتحمّل الذنب لابنتها وتجبرها على الاعتراف بنجاستها، وعلى معاقبة نفسها وجسدها. فتقرأ على مسامعها فقرات من الإنجيل كدليل على أن المرأة هي مصدر الخطيئة الأصلية، خطيئة الجنس. ترضخ كاري بعد مقاومة عقيمة. وفي القبو المقفل، تتفّرغ لأفكارها حيال شعورها بالإهانة والعجز، تنظر الى نفسها غاضبةً في المرآة فينفجر الغضب تلقائيًا "سحرًا" تتعاظم قوته كلّما اشتد القمع.


رأسمال وساحرات وثائرات

تعيش كاري رهينة "أنا أعلى" تدفعها من جهة الى التعليم الديني والرجعية والقمع الجنسي، ومن جهة أخرى الى الانتظام مع السائد (conformity) في مجتمع تنافسي، مهووس بالمظاهر ورقص ترافولتا والاستعراض، يقابله حقد أعمى تجاه المستضعفين. هذا المجتمع الذي صعد في فترة ما بعد ثورات الستينات، "شفط" الحريات الجنسية والسياسية والثقافية الراديكالية وحوّلها الى أنماط استهلاك جديدة. وكاري تمثّل هذا الفرد الذي يعيش داخل هذه التناقضات الغرامشيّة المتوحشة.

وتدخل قدراتها الخارقة في خضم هذا الصراع فتتوسّلها للدفاع عن نفسها كتفريغ لاإرادي لبؤسها، على رغم هزال جسدها ونحافته، فتصفها بالساحرة المشعوذة. 

ثمة ما يربط هذا الموقف في الفيلم بكتاب "كاليبان والساحرة" للمفكِّرة الإيطالية سيلفيا فيديريتشي، تشرّح فيه ظاهرة حرق النساء اللواتي اتّهمن بالشعوذة، وهي ظاهرة استمرّت لقرون عدة في أوروبا. فخلافًا للسردية المعروفة عن التخلف الديني للكنيسة في القرون الوسطى كسبب لحملات القتل تلك، تستخدم فيديريتشي إطار "التراكم البدائي" الماركسي أو الظروف الاقطاعية التي مهّدت لنشأة النظام الرأسمالي. وتشرح كيف مُهِّدت الطريق لولادة لعالم الجديد من خلال استعباد وكبح وقمع كل المحاولات والتجمعات التحررية اليوتوبية الرافضة للسلطة الاقطاعية والرأسمالية. وكانت النساء حينها على رأس هذه المجموعات من الفلاحين والحالمين والمثليين والعمال. وبسبب استخدامهن طبّ الأعشاب والوصفات الشفائية التي ورثنها عن الأجداد، اتُهمن بأنهن ساحرات ومشعوذات. ففي زمنِ العلوم الفطرية (اللامنهجية) التي تؤمن مجتمعاته بالسحر لحل المشاكل النفسية والجسدية، كان للنساء السلطة العليا. وتوضح فيديريتشي أن هذه السلطة كانت تهدد ولادة رأس المال، لأن السّحر بطبيعته هو "رفض" للعمل والإنتاجية. فأبيدت "المشعوذات" وتسلّم الرجال السحر وأقصيت المرأة إلى المنزل لتأدية دور الزوجة والأم الساهرة على ضمان ظروف إعادة إنتاج الرأسمالية - النظام الذي ولد على أجسادهن. 

كاري تعيش في حقبة بداية رأسمالية ما بعد الحداثة. ومجتمعها أيضا يحاول أن يحرقها على طريقته: فقد جُعلت تشعر لبرهة بأنها انتظمت وباتت مقبولة، عندما حضرت حفل التخرّج الراقص في المدرسة برفقة أحد زملائها، وفازا في مباراة "أجمل ثنائي". ولم يكن ذلك سوى مكيدة. فما إن اعتلت كاري المسرح لتسلّم الجائزة، حتى دُلق عليها دم خنزير. فاستيقظت قدراتها السحرية، وراحت تقتل وتحرق زملائها في المدرسة وأمها في المنزل. ويشير المخرج براين دي بالما في إحدى مقابلاته إلى أنه كان يريد لكاري أن تفجر وتحرق المدينة بأكملها، لكن ميزانية الإنتاج لم تسعفه في تحقيق رغبته. 

عندما بدأت كاري في تقبّل عالمها، خانها هذا العالم مجددًا. وفي ظرف كهذا، لا تجد كاري أي مبرر للكلام، وأي جدوى لكبت مشاعرها، فأطلقت العنان لغضبها وفجّرته. هذا ما يطلق عليه الحاج جاك لاكان تسمية "العبور الى الفعل"، حيث ينكسر العقد الاجتماعي بين الفرد ومحيطه، ويتعطّل دور اللغة في الدعوة إلى التعقّل، فيعبر الفرد الى فعل عنيف ويائس يخرجه من المجال الرمزي للّغة الى المجال "الواقعي" (le réel)، مجال اللحم والدم.

حال الطبقة العاملة اليوم من حال كاري، مهانة، مكسورة، منهكة، على رغم قدراتها الكامنة المعطّلة بفعل الانقسامات الإثنية والطائفية والعنصرية حول العالم. هذه الطبقة العاملة، مثل كاري، ضحية تمتلك طاقات هائلة، لا بل خارقة، كوحوش غرامشي وساحرات فيديريتشي. فكم من الضغط والإهانة عليها أن تتحمل قبل أن يتحول مشروع البناء والدفاع عن النفس الى "عبور بالفعل" وانتقام باللحم والدم؟

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button