"انه حيّ، انه حيّ!" هي إحدى أشهر الجمل في تاريخ السينما. يصرخ الدكتور هنري فرانكنشتاين في مختبره وأمام ماكيناته العجيبة والمعقّدة، بعينين شاخصتين إلى الأعلى كمن ينادي الإله الخالق ويقول له: "أنا أيضاً أصبحت خالقاً". 


شعبيّة الفيلم حوّلت إسم "فرانكنشتاين" إلى صفة جاهزة لدى مصادفة أي مخلوق أو تركيبة أو عمل غريب. وبينما يصرّ "الأكثر دهاءً" على الإشارة إلى أن "فرانكنشتاين هو الدكتور، ليس الوحش!"، فإن التمعّن أكثر في تفاصيل الفيلم قد يوصلنا إلى استنتاجات أخرى حول هويّة "الوحش" الحقيقي. 

الخلق في زمن الانهيارات

رواية ماري شيلي "فرانكنشتاين، أو بروميثيوس الحديث" والتي تُعتبر أوّل رواية خيال علمي، ألهمت صنّاع السينما في هوليوود وخارجها على مدى 110 أعوام. هناك عشرات وعشرات من الأفلام التي أنتجت بين 1910 و2019 استُلهمت بشكل أو بآخر من رواية شيلي. أول ثلاثة أفلام أنتجت لم ينجُ منها سوى فيلم قصير أنتجه أديسون عام 1910. وأول فيلم طويل لا يزال "على قيد الحياة" هو فيلم "فرانكشتاين" الذي أنتجته يونيفرسال ستوديوز عام 1931 وكُتب انطلاقاً من النسخة المسرحية للرواية التي عُرضت في 1927. ثم ألحقته يونيفرسال بفيلمين آخرين تتوالى أحداثهما. 

عُرض الفيلم الذي أخرجه جيمس وايل خلال سنة مضطربة من تاريخ الولايات المتحدة. ففي 1931، تفاقم الانهيار الاقتصادي الذي كان بدأ في 1929 لتمتدّ آثاره إلى كافة أنحاء البلاد، فأعلنت المصارف الأميركية إفلاسها وفقد المزارعون في الأرياف مواردهم ومصادر تمويلهم. ويشير المؤرخون إلى أنه في تلك الفترة فقد أكثر من 30 مليون أميركي مداخيلهم كاملة. وقضى الانهيار على غالبيّة الاقتصادات الرأسماليّة حول العالم، فطافت على السطح مختلف النزعات الغريزية المكبوتة لدى هذه الشعوب، وشهدت أوروبا صعود الأحزاب الفاشية.

وعلى الرغم من أجواء القلق والبؤس الناتجين عن خسارة المداخيل، ظلّ الناس يترددون إلى دور السينما بحثاً عن الترفيه وهرباً من الواقع. ومع استمرار الأزمة، عدّلت استديوهات هوليوود استراتيجياتها الإنتاجية بهدف استقطاب عدد أكبر من روّاد الصالات، فعلى سبيل المثال، قررت شركة يونيفيرسال إنتاج عدد كبير من أفلام الرعب وعرفت تلك الحقبة بـ "العصر الذهبي للوحوش" (The Monsters Golden Era). وكان فرانكنشتاين في طليعتها. فهل سمح ذلك الفيلم لفقراء المدن الكبرى الأميركية بأن يشعروا ببعض القوة والسيطرة على  الرغم من الانهيار التام في واقعهم؟ وهل شعر أولئك بصِلة ما مع البطل الغريب، أي الدكتور فرانكنشتاين، الذي رفض الانصياع للقواعد البرجوازية التي أملتها عائلته ومجتمعه الطبّي عليه، فقرر أن يخلق الحياة من كل ما هو ميّت؟

لحم وكهرباء وتكنو-ثيولوجيا

فيلم فرانكنشتاين لا يتعامل مع البعد الميثولوجي فحسب، بل أيضا مع شكل جديد من الثيولوجيا التي ظهرت بالتزامن مع الحداثة والثورة الصناعية وموت الآلهة. الدكتور هنري فرانكنشتاين من عائلة ارستقراطية عريقة، والده بارون كبير في مقاطعة بافاريا الألمانية. يعمل في مختبر علمي ويختبر نظرياته غير المألوفة حول الكهرباء البيولوجية. ويبدأ الفيلم بمشهد للدكتور ومعاونه المعوّق ينتظران انتهاء مراسم دفن أحد الموتى من أجل نبش القبر وسرقة الأعضاء الطازجة. لاحقاً، سيسرق المزيد من الجثث الموجودة بحوزة زملائه في المعهد العلمي.

أهل الدكتور وخطيبته وزملاؤه العلماء غير راضين عن اختباراته. ويتحدثون عنه كمن يقيّم تلميذاً ذكياً يقضي على موهبته بحبّ المغامرة. إلا أن مغامرة التلميذ المشاغب تتعلّق بـ "الخلق". 

وفي مجتمع كاثوليكي في أوائل القرن العشرين، ليس الخلق مسألةً عابرة. ففي العهد القديم، يخلق الله الكون من العدم ويخلق آدم من الغبار. أما في فرانكنشتاين، فيخلق الدكتور وحشه من أعضاء بشرية ميتة. فنحن الآن في عصر الفوردية (Fordism)، عصر خطوط الإنتاج والتجميع والتعليب وتقسيم المهام، فيصبح من الطبيعي أن يخلق الإنسان وحشَه كسلعة مصنوعة من قطع متعددة المنشأ. يشبه هذا النمط تقنية الإنتاج السينمائي أيضا، وبخاصة التجريبي منها. فالفيلم هو كناية عن شرائط يتم تقطيعها وإعادة لصقها بترتيب مختلف حتى تبصر النور كوحدة فيلميّة يبثّها البروجكتور على الشاشة. وهكذا يشبه وحش الدكتور فرانكنشتاين، المكوّن من "بقايا" المدافن والمشارح، الأفلام التجريبية التي كان يصنعها المخرجون من خلال تجميع قصاصات فيلمية مرميّة خلف دور السينما.

وعلى رغم دخول الحداثة إلى المشهد الإنساني وانحسار سلطة الكنيسة الكاثوليكية، لم تنتفِ حاجة الإنسان إلى البعد الروحاني. فاستُبدلت سلطة الكنيسة بسلطات أخرى أكثر مادية في ظاهرها، منها سلطة العلم الذي أصبح المؤسسة الحديثة القادرة على قيادة المجتمعات وتوجيهها بالحقائق الموضوعية وغير القابلة للنقاش،  والتي تحّول الناس والمجتمعات إلى أرقام وإحصاءات، خدمةً للطبقات الحاكمة. وبالمعنى اللاّكاني (أي جاك لاكان)، استُبدل "آخر كبير" (Big Other) وهو الله، بـ"آخر كبير" جديد. وبعد أن كان الله والكنيسة الضامنان الأساسيان للمعنى، أصبح هذا الدور من مسؤوليات العلم ومؤسساته، وهو ما دفع الدكتور فرانكنشتاين إلى أن يقول: "صرت أعرف معنى أن أكون إلهاً!"

السقوط من الفردوس

سرعان ما يتحول المخلوق إلى وحش عنيف، يعتدي على كل من هو بقربه. يقتل الأطفال والأبرياء ويعتدي على الدكتور وزوجته ويزرع الرعب في قلوب السكان المحليين. والفيلم يحضّرنا مسبقاً لوحشيّة المخلوق، فنحن نعلم أن معاون الدكتور سرق دماغ مجرم معتوه ليستخدمه في صناعة هذا الوحش. ويقول زميل فرانكنشتاين أن مخلوقه حُكم عليه مسبقاً بأن يكون شريرا. لكن هذه الحتمية لم تكن ظاهرة دائماً. فعندما استفاق المخلوق للمرة الأولى في المختبر، كان هادئا وفضوليا كالطفل البريء، يحاول أن يفهم العالم الذي يحيط به، فيوجّهه الدكتور ويعلّمه كيفية التحرّك، فيلبّي المخلوق الأوامر بهدوء. ومن المهّم هنا الإشارة إلى لقطة قريبة وقصيرة، قد تكون الأكثر شاعرية في الفيلم، تُشعر المشاهدين بنعومة يد المخلوق وهشاشته، وتعكس براءته الطفولية. بمعنى آخر، لا يصحّ إطلاق تسمية "وحش" عليه. غير أن معاون الدكتور، الذي يقدّمه الفيلم على أنه معتوه "بسيط"، يصيبه الذعر من شكل المخلوق فيباشر بضربه بالسوط. ويتدخل الدكتور لردعه لكن المعاون يزداد عنفًا ويتسبّب بتحوّل المخلوق من كائن بريء إلى وحش يستحقّ التعذيب والضرب. 

في الفيلم إذاً، أسطورة "السقوط من الفردوس" التي أصابت آدم وحواء سابقاً، ليست ناتجة عن أفعال المخلوق بانفصاله عن الطبيعة، بل هي من مسؤولية الخالق، أي الدكتور فرانكنشتاين، الذي قضى على براءة المخلوق الجديد.  

الإنسان الوحش

وجود الانسان، وخصوصا الإنسان الرأسمالي "الانثروبوسيني" المعاصر، على الأرض هو وجود وحشيّ، او حتّى شيطاني بالنسبة للطبيعة. في القرن التاسع عشر طرح الفيلسوف الرومانسي الألماني شيلينغ فكرة وجود "حزن لا يُستنفذ في كل ما هو حيّ" في الطبيعة، بسبب عدم قدرة الطبيعة الحية، الحيوان والنبات، على النظر في ظروفها والتعريف عن نفسها. ويعقّب سلافوي جيجك قائلاً أن وجود الإنسان وانشقاقه عن الطبيعة وانبعاث اللغة معه سمح للطبيعة بالنظر في نفسها، والتعريف عنها، وبالتالي إيجاد الخلاص من حزنها القديم. 

هذه الفكرة الرومانسية قد نجدها تصبح ملتوية في فرانكنشتاين، فالوحش هو إذاً تعبير عن تعبير، في براءته ومن ثم وحشيته هو تعبير ربما عن حزن، وربما أيضا عن فشل الدكتور ووحشيته التي سمحت الحداثة بتحريرها.

هذا الشيطان يعبّر عن حزن الطبيعة ويدمّرها في آن معًا فيزيد من عذابها. والمخلوق هو عبارة عن "ألم مركّب" يشبه "النمو المركّب" والذي هو من أساسيات النظام الرأسمالي، ومسبّبة الهوس بالنموّ الدائم الذي فقد البشر السيطرة عليه حتى تحوّلت الأرض كلّها إلى وحش نتعايش معه ويتعايش معنا. 

"ثورة" علمية ضدّ المجتمع الحديث؟

انطلاقاً من السياق التاريخي للفيلم والصدام الواضح بين الدكتور من جهة، والعائلة والمجتمع من جهة أخرى، يبقى أن نطرح فرضية أن ما فعله الدكتور هو فعل ثوريّ. فهو، بفضل إنجازه العلمي الخطير، تحدّى الحياة "الطبيعية" لعائلته البرجوازية وعكّر صفو الارستقراطيين في مجتمعه. 

من بداية الفيلم، نلاحظ فصلاً واضحاً بين المساحات والأمكنة التي يحتلها الدكتور وتلك التي نرى فيها عائلته وخطيبته وزملائه الأطباء. ويؤدي الفصل بين المساحات إلى اختلاف جمالي واضح بين عالمين متضادين: عالم الظلام "الغريب" والمختبر الذي تغطيه الظلال الحادة والعناصر الهندسية القوطية (Gothic) والمقابر والأموات، وعالم النور "الطبيعي" التي تعيش فيه البرجوازية بلياقة وعقلانية ووضوح. 

في نهاية الفيلم، وبعد أن يتلو "فعل الندامة" ويعبر عن خيبته أمام خطيبته، يعود الدكتور فرانكنشتاين إلى العالم الواقعي وإلى حديقة القصر الباروني. ويعترف هنري أن ما فعله كان متطرفا ومجنونا. فيقرّر أن يترك كل ذلك وراءه، وأن لا يحاول فهم ما حصل، وأن يصبح الرجل التقليدي الشجاع الذي عليه أن يتزوج حبيبته وأن يحميها من الوحش. 

هو إذاً طبيب ثائر لمرة واحدة فقط ولفترة محدودة. وكأي مراهق يمرّ بمرحلة التمرّد ضد الأهل، شكّلت مراهقته العلمية تلك مغامرة تكنو-روحيّة اكتشف من خلالها ذاته واثبت قدرته على مواجهة سلطة "الأب-الله-المجتمع". 

لكن في النهاية، لا يحصل المشاهد على "نهاية سعيدة" تمامًا، فعلى الرغم من أن المجتمع والأهالي تخلّصوا من الوحش وأن هنري نجا من براثنه، يختفي هنري المصاب في السرير وراء والده الواقف في مقدمة اللقطة والطاغي بصريا على ابنه الذي بالكاد نرى ملامحه في الخلفية. ويلمّح ذلك بطريقة ذكورية رجعية إلى أن هنري أصبح هيستيريا عندما قرر أن يَخلق، أي عندما حصل رمزيا على الرحم التكنو-ثيولوجي، وأن الحقّ في النهاية هو مع الرجل الأب البارون، لأن الثورات العلمية وغير العلمية مصيرها الفشل.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button