أعادني رحيل ديفيد لينش إلى أمنية ساذجة راودتني خلال دراستي للسينما. بعد أن غصت لأول مرة في عالم أفلامه، انتابني قلق معرفيّ، تمنيت حينها لو أنه يكشف لنا يومًا أسرار أفلامه، أن يقدّم لنا القطع الناقصة من اللغز ربما في كتيّب أو شريط مصوّر يفصح فيه بالكلمات عن "المعنى" الحقيقي لكل عمل من أعماله. لكن لينش رحل، ولم يترك خلفه أي من هذا، بل ترك إرثًا من الغموض وعالمًا غريبًا ينافس حاضرنا في غرابته.
هناك هوس قديم بتفسير أعمال لينش، والإنترنت يعجّ بـ"المحققين" الذين يدّعون فك شيفرة أفلام مثل توين بيكس ومالهولاند درايف وغيرها. لكن هذا الهوس ليس بريئًا؛ فمنذ الأزل، سعت المجتمعات البشرية إلى فهم المعنى الكامل للوجود، وعندما فشلت في رفع القناع عن الحقيقة، ملأت الفراغ بالأساطير والسحر والدين والآلهة… وأيضًا بالفن. وفي المقابل، في عصر الحداثة وما بعدها، لم تعد الحضارة تطيق الغموض، فاستبدلت الأجوبة الماورائية بالعلوم التطبيقية، والحقائق، وما يُعرَض في الإعلام، وفيض لا متناهي من اللغة. حتى الفن المعاصر أصبح تحليليًا.
لينش يكره هذا المنطق الذي يسعى البعض إلى فرضه على أفلامه، ويسخر (بطريقته اللبقة المعتادة) من محاولات تحويل أعماله إلى كلمات وخطاب، إلى لغة عقلانية.
منذ شبابه، كان لينش ثائرًا بطريقته الخاصة، ضد أناقة وعقلانية خمسينيات ما بعد الحرب، متمردًا، مشاغبًا، متلاعبًا بالمسموح والممنوع. وحين أصبح طالب فنون، ثار على اللغة ذاتها. يروي الذين عايشوه آنذاك عن علاقته الإشكالية بالكلام. ومنذ ذلك الحين، سيطر عليه الهوَس بكل ما هو خفيّ، بما يكمن وراء الستار في عمق النفس البشرية أو خلف جدار المادة.
لكن لماذا كل هذا القصور في الوضوح؟ بل لماذا كل هذا الغموض؟
هناك سببان رئيسيان: الأول يرتبط بهوس لينش بأعماق النفس البشرية، والثاني برفضِه الضمني لفائض المعلومات والمعنى في عالمنا. وكلاهما مرتبط باللغة. فمن جهة، تتحدث أفلامه بلغة الحلم واللاوعي، متجاوزةً منطق اللغة المنطوقة. ومن جهة أخرى، يتعارض غموضها مع منطق التشبّع اللغوي الذي بات عالمنا يعتاش عليه.
الشرّ وخيانة الحقيقة
طريق الحقيقة لدى لينش يمرّ بخدعة: غالبًا ما تبدأ أعماله بشيء مألوف، واضح، يطفو على السطح. لكن سرعان ما تتعقّد الأمور، وينزلق المعنى من بين يديّ المُشاهد، ليتركه في حالة من القلق. ذلك لأن لينش يجيد التعبير من خلف قناع الظاهر، ما جعله فنان اللاوعي، فنان الحلم والكابوس، فنّان الذاتية المتقطّعة والأجزاء والفرد غير المكتمل - تمامًا كما رآه جاك لاكان. وهذا البحث المستمر عن الناقص هو مصدر القلق. لينش يكره الوضوح، وكمالية المشهد أو الشخصية. لذا تظهر شخصياته متشظية، كما هو السرد والزمن في أفلامه. ليس غريبًا أن يكون فرانسيس بيكون رسّامه المفضل.
لينش يهوى فضحَنا، يضعُ أمامنا على الشاشة شيئًا مألوفًا، نعرفه ولكننا لا نعي ذلك، يسلبنا أدوات المنطق اللغوي والرمزي، ويضعنا في مواجهة مباشرة مع ما نرفضه: غرائزنا، مخاوفنا، السرّ الذي نتكتّم عنه، ما لا نقوى على النطق به. هكذا، يرسم بأفلامه خريطة اللاوعي البشري.
السعي وراء الدفين يقود دائمًا إلى استحضار الشرّ. في "بلو فيلفيت"، يدخل البطل عالماً سفليًا في دهاليز العالم الزهري البريء - عالم الشرّ والانحراف. "في مالهولاند درايف"، يتحوّل الحلم الهوليوودي الأميركي إلى جحيم. في "وايلد آت هارت"، نعيش لحظات من الشرّ والرّعب. أما في "توين بيكس"، فالشرّ متجسّد في الشخصيات، ينمو شيئًا فشيئًا في "ليلاند"، و"بوب"، ثم في "جودي".
في فلسفة آلان باديو، الشرّ خيانة للحقيقة، أي ما ينحرف عنها. ولا شك أن أعمال لينش تحوي فائضًا من الشرّ من جهة، وفائضًا من الغموض والتساؤلات من جهة أخرى، ما يوحي بأن الحقيقة غائبة في أعماله وأن كل ذلك الغموض هو بمثابة تأكيد على ذلك. لكن هنا المفارقة: أفلام لينش تغوص في الشرّ، لكنها ليست شريرة بالمعنى الذي يقصده باديو. التعقيد والإبهام في أفلام لينش لا يخفيان غياب الحقيقة، بل يعلنان، كما في الأحلام حسب فرويد ومن بعده لاكان، أن هناك حقيقة في الاحلام أكثر من اليقظة. فنحن لا نهرب من الحقيقة لنعيش وهم الحلم، بل على عكس ذلك، نهرب من الحقيقة الفائضة في الحلم لنختبئ في أمان اليقظة. إذًا، لا تخون أعمال لينش الحقيقة، بل تلمس بأطراف أصابعها حقيقة بشرية دفينة ومعقّدة.
الحقيقة ضد المعنى
تاريخ السينما مليء بالأفلام الغامضة والتجريدية، لكن أعمال لينش تتميز بقدرتها الفريدة على استفزازنا وإرباكنا. ليست أفلامه أكثر تجريدية من غيرها، بل إنها تجريدية بالقدر المطلوب، لا أكثر. هناك شيء مألوف فيها، شيء يوحي بالمعنى، لكنه يظل عصيًا على الإدراك المباشر.
أفلامه تدعونا إلى الدخول في عالم آخر، وعندما نلجه، وحين نفعل، تتركنا وحدنا بدون أدوات تُسعَفنا. نبذل جهدًا فكريًا هائلًا في محاولة ربط السرديات، وتحليل الشخصيات، وحتى إعادة توليف الفيلم ضمن خط زمني واضح. ومع ذلك، يبقى هناك شيء ناقص، ثغرة لا يمكن إلا تقبّلها كجزء من تجربة أفلام لينش.
كتب الكثيرون عن لينش وأفلامه، وتوصّل بعضهم إلى استنتاج مفاده أن الاستسلام أمام أفلامه هو الخيار الأمثل، كما يستسلم المرء لأحلامه. تقول اللاكانية أولغا كوكس كامرون: "أن نمنح أنفسنا الفرصة للتأثر بالوهم العابر". فهل علينا إذًا أن نستسلم؟ أمام انعدام المعنى، أمام الوهم، أمام قلقنا من النقص - ذلك القلق الذي يطفو على السطح كلما اقتربنا من الحقيقة التي نرفضها، كما يقول كيركغارد. أليس ذلك نوعًا من الحريّة الراديكالية؟ تحرّر من المنطق وقواعده، من العملية الحسابية، من اللغة، من المعنى، تلك الحريّة الصعبة التي غالبًا ما ترافق رحلة الوصول إلى الحقيقة.
في خلفية أفلام لينش، هناك الواقع غير الفيلمي، واقعنا الذي يقع خارج إطار الفيلم. لكن هناك من يعتقد أن هذا الواقع لم يعد موجودًا أصلًا. في "الجريمة الكاملة" يبدأ جان بودريّار كتابه بنعي الواقع، يعلن موته، ولكن في الوقت ذاته ينعي الوهم، ذلك "الوهم الأساسي" الذي سقط معه تحت وطأة الفائض اللغوي الحداثوي وتحت فائض المنطق والمعاني. هكذا، يعلن عن سموّ الشرّ ببعديه: الانحراف عن الحقيقة، والدمار القاتل.
هكذا إذن يثور لينش على عالم ما بعد الحداثة وشرّه، عبر حجب المعنى، عبر حجب المنطق، وعبر حرماننا من التلذّذ بالنتيجة الماتيماتيكية ونشوة المنطق. إنه يضعنا أمام حقائق صعبة، لعلّنا نرى ونواجه هذا الفائض من المعنى، وهذا الفائض من الشر.
بعد عقد ونصف من القلق المعرفي الذي أصابني نتيجة إشكالية المعنى في أعمال لينش، تصل اللّغة إلى خواتيمها.. أوَدِّع الرجل ليرقدَ بسَلام...