انعدام تامٌ للمعنى. فقدانٌ كامل للاتصال برحمة الربّ، ذلك هو ما يسميه الرهبان "الليل المظلِم للنفس". وفي علم النفس تتعدد الأسماء وتتعقّد. يقولون "اكتئاب"، هذه أسمعها دائماً. وفي الفلسفة يقولون "عدم"، يقولون "عبث"، وهذه قد يصحبها وقد لا يصحبها اكتئاب أو خِفّة. لكنني سمعت أيضاً أنّ هذه كلمات صارت ممجوجةً، شرشَحها الابتذال، وأنّ أفضل العبث قد تجده قاعداً في حسابات "تيك-توك" أو في قصيدةٍ مدّعيةٍ قاصرة. "الليلً المظلمُ للنفس"، إذاً، هذه أفضل في هذا الوضع العدَم... عدم شرعي يعني.

أنتَ في الظلام، وأنا أيضاً، وكذلك تلك الفاشن بلوغر التي تسجّل الآن لايف-إنستا-ستوري لتقول لنا أنها كانت “in a dark place in life” قبل أن تبتلع هذه الحبوب المميزة من الماركة الفلانية التي تروّجها، والتي ساعدتها على تنحيف خصرها لتصيرَ ساعةً رمليةً قادِرة على حبّ ذاتِها. هي وكلّنا نتحدّث عن الليل المظلم إيّاه ولا نعرف له هيئة أو رائحة أو لوناً أو إحداثيات. نعرف فقط أننا وصلنا، أنّنا هناك بالفعل، ولا نجرؤ أن نسأل "كم لبثنا؟". 

"يا ربّ من رحمتك مكّنت للإنسان / يغيّر الضلمة أما النور ما يتغيرش"، يقول فؤاد حدّاد في "المسحّراتي"، ويقرع الطبلة. تقرع طبول الشكّ. هل هذه لعنتنا؟ أن نحاول تغيير الظلمة أكثر قليلاً مما تغيّرنا؟ هل نقدر أصلاً؟ أمّا هي، فبالتأكيد تستطيع، وقد شهدتُ ذلك مرات لا عدّ لها، أشهد أمام الله - وأنا مؤمنة ساذجة وساخطة. تغيّر الظلمات الأرواح والأجسام والأوطان والعلاقات والبيوت والعالم. تسحر وتجذب وتمدّ وتجزر وتأخذ الرهائن وتغيّرني أيضاً. وفي بعض الأيام لا تعود تسمح لكلمة أو شعور أو فكرة أن تنشأ إلّا عبرها. وما يدخل في الظلمة لا يمرّ، يُسحَب في ثقب أسود ويلبث... "كم لبثنا؟"

ماذا لو كان السؤال من أصله خطأ؟ فبما أننا لا نعرف للظلمة طريقاً أو هيئة، فلعلها هي التي تسكن فينا مكاناً، لا العكس. لعل على السؤال أن يكون "كم لبثتْ الظلمات فينا؟"، لا كم لبثنا فيها. هذا مقنع أكثر! الآن نراها في كل الأشياء، في العاديّ جدّاً والمألوف واليومي والمملّ. في الأشياء البراقة والجميلة والقوية والعظيمة. في القيم والأفكار والأحاسيس والأديان. ظلمات في ظلمات في ظلمات في ظلمات. 

صحن طعامٍ حسن التزيين على طاولة العائلة هو شرٌّ هائل عندما يؤكل منه بعد كلمة جارحة من زوج لزوجته، ما زالت معلّقة في هواء غرفة الجلوس. كيف نطيق كوب الشاي الذي شربه قاتل ابنته بعد الجريمة؟ الـ"بيسين" والمطعم في فقرا حيث يجتمع "ولاد العيل" الذين لسبب ما صاروا يجدون بيروت مثيرةً للكآبة، هذه أيضاً وكرٌ للشر وهوّة للظلام. ومثلها الصندوق البني للإعاشة فور تسليمه للمحتاج أمام الكاميرا، المهدئات، النصائح، المصالح، الأكل المعلّب، ثياب العمل، الحب المسعّر، بيت العائلة، مسجد الضيعة، الأعياد بدون عيد، الشلل الناشِطية، الأرباح السريعة. التكنولوجيا أيضاً في أيدي من نعرف ولا نعرف وجوههم وأفكارهم، شرٌّ سحيقٌ مُنفلِت، والمصارف التي تأتمنها على فلوسك في أيام العزّ – خلّينا ساكتين. يومياتنا وعاديّاتنا وأخبارنا شرٌّ خفيّ وظلمات في ظلمات في ظلمات، توازي في جوهرِ قهرِها شرّ إفناء الدّنيا في قنبلة نووية ندّعي أنّ البشرية تحتاجها.   

"غازلي الشيطان"، أتذكّر صديقاً قديماً يقول بحزم، فالشيطان يضيع عندما نقابله بالكلمات الحلوة والحبّ، يتغذّى على الألم والمعاناة والغضب وكل المشاعر البشعة، ويموت جوعاً وغيظاً أمام فيض الطيبة، يدّعي. ليت الأمر كان كذلك! يبدو لي الآن أن الشيطان غير آبه بما يصادف منّا، يعرف التعامل مع خيرنا وشرّنا، وتسلّيه محاولاتنا الطفولية البلهاء للنجاة. هذه ظلماتٌ مستمرّاتٌ باقيات على جميع الجبهات، ونحن منهكون. "كم لبثنا؟ بل كم لبثت الظلمات فينا؟" 

الوجود اختلالٌ كوزميّ، الغلط الأعظم، ربما. يدّعي فيلسوف زمانه السوبر بوب ستار سلافوي جيجيك أنّ تبني هذا الخطأ وامتلاكه والذهاب به إلى الآخر هو ما نسمّيه نحن العَوام "الحبّ". لكن، أليس الحب نفسه هو هذا النوع من الخلل الكوزمي؟ يستدرك. إنه فعل بالغ العنف. "الحب ليس أنني "أحبكم جميعاً"، لكنه يعني أنني أصطفي شيئاً، ولو كان تفصيلاً صغيراً أو شخصاً هشاً، فأقول "إنني أحبك أنت أكثر من أيّ شيء آخر". بهذا المعنى الشكلي، فإنّ الحبّ شرّير." ما العمل، طيّب؟ فنحن حقّاً نكره الشرّ والشيطان والليل المظلم للنفس. هل علينا ألّا نصطفي؟ أن نحب كلّ شيء وأحد كالهيبيين المنافقين؟ طيب أن نصطفي ونحب ما اصطفينا أكثر حتى يفيض الحب على سائر الأشياء؟ أن لا نبالي بشيء أو أحد، حبّاً أو كرهاً...؟ (انظر: الحياد في معجم المعاني اللبناني).

لعلّه كلامٌ فارغ كل ما قد سلف، والآن بعض التناقض الجميل في النهاية: الظلام رفيق كلّ الأشياء الرائعة. هو حيث يُسمح لفكرة خطيرة أن تسرح وتمتدّ، حيث لا يُعاب على جسد منهَكٍ أن يرتاح، حيثُ تغلب الشهوة الحياء، حيث تحمّض الصور السالبة إلى موجبة. هو حيث نخطط للقتل. "يجب أن نقتل الوحش"، يقولُ صوتٌ في الظلام فيردّ الصدى. مناشير التحريض تُطبع، وخطط تصفية الوحوش تحاك، فهابوها. في الظلام العميق وضوحٌ أكبر من وضوح النهار.

كم لبثنا؟ ما يكفي من الوقت لنتعلّم ترويض الظلمات، أو بعد؟

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button