أنتَ هنا. الآنَ، هنا. أنت. أرِني كفّيك.

أطرافُكَ بارِدةٌ، أعرِف. في كفّيك وفي وجهِك مكتوبٌ كلّ الذي لم يأتِ بعد. أمّا الآن، فباسم الله اشرَب وارغَب.

يشربُ.

ينزل الترياقُ في الحلق دافئًا، غليظًا بغيرِ انسياب، عَلقمًا. تشربُه الأمعاء، يشربه الدّم، تشربه العينان والأظافر والجلد المخبوءُ خلف منابِت الشَّعر في الرّأس. تصيرُ أنتَ التّرياق، تصيرُ لزجًا، ممطوطًا، مضغوطًا في آن... أثرًا. تشعرُ بالرّمش يرفّ في أسفلِ عينكَ، بَلى، ولكن لا تشعر بقدميك تُلصقانِك بالأرض... عائمًا.

لكِن بَسمِل وتوكّل. "لا تخشَ شَي".

- بسم الله الرّحمن الرّحيم. يعبُر.

هل كنتَ واحدًا وصرتَ كثيرًا؟ بل... 

- يعبُر.

هل هويتَ وانتهيتَ ورضيت؟ 

- يعبُر.

*******

ها هِي! الرّبع الخالي. الأرض الّتي لم يطأها إنسان. عراءٌ مُطلَق. لن يبحث عن رمش عينه هنا في كومة من الفراغ، ولن يقلقه أين يكون مهبط قدمه على الأرضِ كلّما تقدّم، فهنا يطفو ولا يرتطم بجماد ولا تأخذه الرّيح ولا يُغرقه الماء. هذا هناك وجه أمّه قبل أن تلِده، يعني، كما لم يرَه مِن قبل، وجهاً متخفِّفًا مِن همّ الوَلَد- همّه هوَ، وهمِّ الأشياء الأُخرى، وجهًا فتيًّا وغريبًا، يستهلّ عالمًا سيأتي. يعني أنّه وجه امرأةٍ لا يعرفها، وجهٌ يُشعِره بذنبٍ جديدٍ متوحّشٍ عميق، يؤلمُه خلفَ الصّرّة، يُبكيه من غير دموع. أمّا هيَ، فمِثله، تعبر. وهي مثله، تكبُر، لتصير أمّه. يملؤه سؤالٌ لا يملكُ لسانًا ليسأله.  

- يعبُر. 

يعلقُ في ورقة الـ"بانك نوت" مِن فئة الخمسة آلاف ليرة لبنانيّة، يقعد بين الخمسة والأصفار الثّلاثة، وينتظر. هذه كانت لِعليّ. ورقة منذورة على اسمه، ثمن عرقِ ساعة إضافيّة كان سيمضيها على البور مع "شوالاتٍ" ثقيلة مغلقة بإحكام، لن يسألَ ما فيها، ولن يعرف ما فيها. لعلّ عليًّا أو رجلًا آخر يشبهه حمل كيسًا آخر في ما مضى، ولم يعرف ما فيه أيضًا. لعلّه شمّ رائحة إسمنتٍ وحديد وعظامٍ تحترق حين هتف "ييييا ربّ!" فيما دفع بالكيس إلى أعلى ظهره، ليحطّ بخبطة مكتومة على بدَنه. "أ-م-ووو-نيوم- نييي-تراييت" اسمها. حتّى لو كرّرتها مئة مرّة لن يهتمّ بأن يحفظها. ما حاجتنا جميعًا بمعلومة كهذه أصلًا، ونحن لا نختصّ بالكيمياء ولا بالمتفجّرات؟ لكنّ العابرَ الآن عالقٌ بين الخمسة والأصفار الثّلاثة، على ورقة العملة، ولسبب ما، يعرف اسم "أمونيوم نيترايت"، ويعرف أنّها مادّة تنفجر وتقتل، ويعرف أنّها هنا في مكان ما. هو شاهِدٌ عالِق في ورقةٍ كان من المفترض أن تُدفع لشخصٍ لم يكن من المفترض أن يموت- ليس اليوم على الأقلّ. العابرُ لا يريد أن يرى لكنّه لا يملك أمرَه، سينظر ويُبصر "مثل الشّاطر": لا الرجل الذي اسمه عليّ نجا ولا ظلّ للورقة الّتي يقعد فيها قيمة أو معنى. 

جمّرت المدينة أمام ناظريه لساعات، ثمّ فحّمت. فكّر العابرُ بكلّ شيء، ليس فقط بالمدينة، بل بكلّ شيء كان وكلّ شيء سيكون. ختمَ الأفكار والكتب والمشاعر المبهمة للهوموسابيان الأوّل فيما هوَ ينتظر الفحم ليبرد، ثمّ رغب بالفلافل. "طراطور وبندورة اكسترا، آخ، فقط لَو." 

- يعبُر. 

وضيعًا يرى نفسه في المرآة، مختلفًا وعجيبَ القلبِ وإلهًا معًا. مرآة العابرِ شائبةٌ، غيرُ مضبوطةٍ، هذا احتمال. والاحتمال الآخر هو أنّها المرآةُ الوحيدةُ النّزيهة في هذا الكون. يعجبه ما يرى، فيرتابُ مِن نفسه. يرتابُ كثيرًا.

- يعبُر. 

يرى العابرُ جماعةً تستهلّ القمر. أحدهم يصيح "وُلد الهلال!"، فيما آخر يجزم أنْ "لا، ليسَ بعد". يمعِن العابرُ النّظر فلا يرى شيئاً. يسمع صوت أبيهِ خارجًا من بين الجمهرة، حادًّا كشفرة، يقول "بلى، وُلِد. يحمل اسمي، يكنّى بكنيتي، يتلوَّن بسحنتي، يحمل فكرتي، يقرأ كتابي، يمرضُ بدائي، يموتُ لموطِني..." والعابر لا يستطيع نطقًا. لا يستطيعُ رفضًا.

- عبَر. 

إلى الحياة الوسيعة، حيث سيجد الحبّ والدّفء والفرح الصغير، وحيث سيجد الحرب والحقد والحزن الكبير. ولدَ بلعنة والده، في طقس عبور من المُوات إلى المُوات، عبرَ الحياة. أي أنّه ولدَ ميتًا يمشي على قدمين، وكبر ميتًا يحبّ فكرةً ويكره فكرةً، ونضج ميتًا يختار معارك وينفض عنه أُخرى، ويركض يركض، يعبر كلّ مشاهد تلك "التّتريبة" الّتي هي حياته، حيث تنهار أشياء وتنفجر أشياء وتنتهي أشياء. يصيحُ "مَدَد!" ويركضُ فقط لأنّه يطمع كثيرًا، بكلّ قلبه، فعلًا، بأن يستطيع أن يقول بأنّه مات "حيًّا" على الأقلّ. لم يترك احتمالًاً إلّا تأمّله، ولم يمرّ بزهرة برّيّة إلّا ذُهل بها.

الصورة: من فيلم DeadMan (1995) لـ جيم جارموش

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button