"تعتقد أن الظلام حليفك؟ لكنك بالكاد تبنّيت الظّلام!  أمّا أنا فقد ولدتّ فيه واندمجت معه، لم ار النّور حتى اصبحت رجلاً!"

ــ "نهوض فارس الظّلام"


يمكننا أن نفكّر في شيء قبل إنهاء الجلسة هنا، قال لي المعالج: التروما ربّما تكون شيئًا جيّدًا..

وضع كلّ ما أردتّ قوله في جملة واحدة. التروما هي الدّافع الوحيد للنّهوض، هذا ما ينقص وعينا بوجود الأنظمة جميعها، إمّا تلك القابعة في داخلنا وامّا تلك التي تحتلّنا من الخارج.. انّها اللّحظة التي ندرك فيها أنّ الحياة صارت خلفنا وأنّنا كما يقول موراكامي: حين تخرج من العاصفة، لن تعود الشّخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السّبب وحده كانت العاصفة.

حدث ذلك في صيف 1986، عندما أقدم رجل على قتل أخته. كان يحمل فرد بكرٍ، وكان أسرع من يطلق النّار في منطقة برج البراجنة والجوار. لم يدر ظهره، ولا سار عشر خطوات إلى الأمام، كما يفعل رجال الكاوبوي في الأفلام. لم تعبر أمامه كرات من القشّ ولم تخرج أيّ موسيقى لتشهد على المأساة. حدث ذلك بلمح البصر..

كانت اجاباتهم معدّة دائمًا، بالرّغم من التباسها: دفعتها الستائر عن الشّرفة.. قنّاص قتلها بالخطأ أيّام الحرب.

الرّصاصة التي كانت من المفترض أن تقتل رجلًا يضرب خطيبته، قتلتها لأنّ قلبها كان عليه لدرجة أنّها قد وضعت جسدها أمام الرصاصة وماتت.

في المسرحيّات المأسوية، لا تنتهي الحكاية هنا، كان بإمكان جولييت ألّا تقتل نفسها حزنًا على موت حبيبها، لكنّ المأساة دائماً ما تتطلّب موت شخصين. خطيبها الذي كان يحمل سلاحًا أيضا، كان هو الآخر رجل كاوبوي، لكنّه كان أسرع في تلقّي الرصاصة من إطلاقها..

أسرد على مسمع المعالج، الذي أزور عيّادته نهار كلّ اثنين، تاريخ عائلة "البيكي بلايندرز". 

أخبرته كيف أنّنا عندما كنّا لانزال صغارًا، أيّ قبل أنّ ننسى ماذا يوجد في بيت الجدّات. دخلت غرفة خالي لكي أسلّم عليه، لكنه كان نائمًا. حينها وجدت بالقرب من سريره حبّة دواء بيضاء، بدت لي أنّها لذيذة، والّا لما كان يتناولها كلّما شعر بالعطش. أخذتها وقرشتها، حينها شعرت كأنّني ارتكبت جرمًا هائلًا.

منذ ذلك الوقت وأنا كلّما أحسست بإقتراب مصيبة ما: اكتئاب، قلق، انهيار أو أيّ من تلك الكوارث النفسيّة، كنت أضع اللّوم على تلك الموروثات، التي ظهرت أمامي على شكل حبّة دواء صغيرة تحمي الكبار من ذنوب هائلة ارتكبوها في حياتهم، وكانت جاهزة ومعدّة أمامنا نحن الصّغار، منذ ولدنا نظنّ أنّ كل دائرة بيضاء واضحة في الظّلام هي لابدّ أن تكون قمرًا.

في عائلتي، ثمّة أشخاص ضعفاء كانوا في الأمس مقاتلين أشدّاء. كانت الحرب هي حياتهم، وبعد انتهائها لم يستطيعوا خوض الحياة من بعدها. هذا ما تنتجه الكوارث تحديدًا، نعلق داخلها ونبني حيوات فيها، تأخذ وجوهنا ونأخذ سماتها، تمامًا كما يحصل مع الأطفال، يأخذون من آبائهم كلّ شيء، حتّى ضغائنهم التي كوّنوها ضدّ الحياة.

أخبر المعالج في كلّ جلسة كيف أنّني أخذت من والديّ أكثر ممّا ينبغي، وأكثر ممّا يستطيع ولد احتماله. أتذكر أدوية جدّتي، تلك التي تخصّ الضغط والسّكري وغيرها. أكياس النايلون التي طبع عليها شعار ثعبان يلتفّ حول كأس أو عصا، كان يشبه المغّيط الذي يلفّ أدوية الضمان، التي كانت ولاتزال تجمّعها أمّي لتكسب بهما قرشين أو ثلاثة. أدوية الأعصاب الباهظة التي تخصّ والدي والمقطوعة من السّوق. 

أخبرته كلّ شيء. كيف مات عمّي بسبب إسرافه في الكحول. وكيف أنّ جدّي كان تاجر سلاح.. وأن خالي مات حاملا مسدسين على خاصرته بعد أن اصطدمت به سيّارة مسرعة الى المشفى لإسعاف مريض آخر. تركوا جثّته على الأرض منقذين المسدسين دونًا عنه. كيف والدي فقد النّظر في عينه اليسرى في السّابعة من عمره خلال إحدى حروب النقّيفة.

وأخبرته كيف قتل خالي أختَه بالخطأ في الثمانينيّات..

في حرب تمّوز، قصفت الطّائرات الإسرائيليّة "مركز التّعاون الإسلاميّ" حيث كان يعمل والدي لأكثر من 17 عامًا. حينها، كانت المرّة الأولى التي أراه يبكي فيها. 

لم نكن نملك سوى الأدوية، تلك كانت ثروتنا الوحيدة.. وعدا ذلك، كنّا فقراء. عرفت الانهيارات كلّها، وعشتها الى نهايتها. كان النّظام جيّدًا للغاية، لم تكن تشوبه شائبة، أمّا أنا فكنت مبعثرًا، وحياتي كذلك.

غيّر الإنفجار حياتي. لا يمكنك قول ذلك أمام غرباء. تخلّصت من قلق مزمن ولد معي وتفاقم مع الوقت، تخلّصت أيضا من تأثير حبّة الدّواء، التي لم تكن ترمز إلى شيء سوى لكونها مهدّئات خففت من رغبة القاتل بقتل نفسه.

الحياة بلا قلق وجود نظام هي ترف بالتأكيد، لكن سرعان ما سيتحوّل الإنهيار الى كونه نظامًا جديدًا، وستشعر حينها بحاجة ماسّة إلى الخروج منه، لكنّ الوعي وحده لم يكن يومًا كافيًا للخروج.

ابتلعتُ كوارث الآخرين، والآن جلّ ما أريده هو أن أرفع كتفي الصّغيرة عن الأرض تمامًا كما يفعل المصارع تفاديًا للهزيمة.

لا أعرف إن كان ما أبوح به هو مديح للعتم، لكنّني بكلّ تأكيد، أعرف كيف بإمكاننا التباهي بفشلنا في النّهوض، وكيف أنّه لولا وجود العتم لما فهم أحد أهمّية الرؤية. 

النّظام هو ما يؤسّس لخضوعنا.. هو الدّهشة التي تزول فتتحوّل إلى مهمّة وحيدة مفادها النجاة. لكنّ ما يُخضعنا هو أيضا ما يؤسّس لولادتنا، بيد أنّ بحثنا المستمرّ عن إنهاء الأمور يحثّنا على إعادة انتاج أنفسنا خارج أسوار النّظام. كل الأشياء يمكن زعزعتها الّا شعور الشّخص الخارج بلامبالاته. يقول جورج بيريك: اللامبالاة ليس لها بداية أو نهاية، انّها حالة هامدة، ثقل، عطالة، قد لا يكون في وسع أيّ شيء زعزعتها.

أعتقد أنّ علينا التوقّف هنا، أراك الإثنين المقبل.

وداعًا..

الصورة: من فيلم Trainspotting (1996)

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button