"لأنني غير موجود يصبح الوجود ليس سوى آلاف المرايا التي تعكسني. فمع كل علاقة أقيمها يزداد عدد أشباهي. في مكان ما نتواجد، في مكان ما نتكاثر. أنا لا أوجد وحدي"

فلاديمير نابوكوف - العين

عندما رأيته أمام باب الشّركة، عاجزًا عن الحراك، ملقىً على وجهه، بدا لي أنّه رجل بلا ملامح ولا هويّة، نكرة. كان دمه يذوب في الأرض كما يذوب هو في ملامح الآخرين الذين يتجمهرون حوله في هذه الأثناء. لم يميّزه ولم يعرفه أحد. الزيّ الذي يرتديه يدلّ على أنّه موظّفٌ معنا في نفس الشّركة.

من السّهل جدّا أن تسرد حياة شخص مثله بمجرّد أن تنظر إليه. ربّما يكون أحد أولئك المدانين بالسّرقة. ربّما يكون قد قفز من الطّابق الذي يعمل فيه أمناء الشّركة، سكرتير آخر سرق شيئا وضُبط متلبسا فأقدم على الإنتحار، أو ربّما كان الأمر غير ذلك تماما.

تهمته أنّه مارس جميع الأنشطة التي مارسها آخرون، نام مثلهم، تألّم وصرخ مثلهم، داوى نفسه من أمراضهم، وتمرّض ليشعر بمداواتهم لأنفسهم. كلّما امتلك شيئا جديدا عثر في داخله على شيء من ذاته الضّائعة، الهائمة في فضاءات الشّركة مثل الغبار، الذي يُنفض فيعلق من جديد، ثمّ يعلق فيُنفض، وهكذا، يظلّ الغبار غبارا طوال حياته، ومثل الطّريق المجاورة التي تختفي وتتجدّد كل خريف كلّما غطّتها أوراق الأشجار كلّ عام.

نزل من الرّيف لكي يستقرّ في المدينة، لكي يبحث عن بيت وعمل وزوجة صالحة. الحقيقة هي أنّه لا يمكن لرجل مثله أن يتبنّى حياة هادئة ويمضي بها كأنّها سجن. وأعتقد أن علاقة الموظّفين مع الشّركة هي نفسها علاقة السجين مع السّجن، بيد أنّها وغيرها من الشّركات، بُنيت من جدرانٍ أوّلا وأخيرا لكي تحمينا من المُطْلق. 

أستطيع سماع كلماته الأخيرة تصدح في أذني، كيف أنّه أخيراً وجد شخصاً يشعر معه بأنّه إنسان وليس حيوانا.

هذا كلّه بسبب وفرة الخيارات التي كانت تعذّبه والتي بإمكانها أن تعذّب شخصا مثلي أيضا؛ السّرد اللّانهائيّ للأحداث، الإحتمالات التي تكسبك ضآلة موقعك في الحياة. 

أعرف أنّ تركيبته البشرية هي أقرب إلى الحيوانات منها إلى البشر، لكنّه ربّما من النّوع الذي يمتلك قناعة راسخة في ذهنه، بأنّ المرأة التي بات ينام بين ذراعيها كلّ ليلة، التي يستيقظ إلى جانبها في الصباح قبل أن يتوجّه إلى عمله، فقط من أجل أن يعود إلى أحضانها... هي أيضا كانت تأسره.  

أفكّر كيف أنّه أراد أن يمتلك يوما ما أشياء ذات قيمة، أشياء ظاهرة يمتلكها الآخرون، الصّوت والكلام واللّغة، طريقة سير تخصّه وحده ولباس يعرّف عنه. لكنّه كان سريع التّماهي مع من حوله، لم يكن يملك أيّ دليل عن الحياة داخل الشّركة أو خارجها غير ما اكتسبه من حياة الآخرين.

ربّما قرر أن الحياة هكذا تعني شيئا. اخترع حياة كاملة لها مشيتها، وأحزانها وزمرة دمها.

كيف للمرء أن يسرق حياة بأكملها؟

لم يبارح الرّجل رأسي ولو دقيقة واحدة.

لقد ولد من أجل أن يكون سكرتيرا. يفتح لك الباب قبل أن تقرعه، يحرس المواعيد المهمّة لرؤسائه في العمل، يردّد آخر الكلام الذي يتلقّاه في سمّاعة الهاتف مثل الصدى.

هو ليس سوى محاكاة لأشخاص يستقبلهم في مكتبه خلال دوام العمل، حضوره زائف ومستعار من حضور الآخرين الطّاغي عليه. يتمسّك بهم، يمشي خلفهم بسعادة، يخجل من أن يسير إلى أمامهم وإلى جانبهم حيث حدود خطاه، ظِلٌ لا يراه أحد حتّى في وضح النّهار.

 قرّر أن يسلّم أمره للحقيقة، أراد أن يترك الشّركة ويرحل، لكن إلى أين؟ حنّ إلى مرآته المعتادة، تلك التي يراها في عيون الآخرين. نبش من ذاكرته صورا لأصدقاء وأعاد تثبيتها على وجهه، الذي يحمله معه كجدار، نبش كرسيّا كان قد رآه في مكتب أحدهم وجلس عليه، نبش حلما حكاه له شخص ما في كافتيريا الشّركة، فوضعه نصب عينيه، نبش امرأة وحُبّا وأدوية أعصاب وعلقها كلّها على جدار وجهه الذي يختبئ خلفه. صار له وجه جديد وأمل وابتسامة واضحة. جرعة جديدة ويومٌ جديد.

لكنّ هذا بالتّأكيد ليس ما حدث.

كان بإمكانه أن يكون قاتلا وليس مقتولا، أن يقتل الآخرين عوضا عن سرقة أفعالهم وحياتهم، ففعل القتل يعني أنّ يقلّص عدد الاحتمالات من حوله، لكن ذلك أمرٌ لن يزيده إلّا وحدة ووضاعة. 

ربّما يكون شخصا تستطيع أن تطلب منه القيام بأيّ عمل، لأنّ تنفيذ المهام أمر سهل، ولكن ايجاد تلك المهام وحده هو ما يصعب عليه ابتكاره.

عندما يقطع علاقته بشخص ما، ذلك يعني أنّه لم يعد لدى ذلك الشّخص ما يستحقّ السّرقة، بحيث أنّه لم يعد يحصل منه على أيّ جديد، وبات مجرّد نسخة مكرّرة ومملة عنه، بحيث أنّ كليهما صار طفرة واحدة تبحث عن جسد جديد لتنهش كيانه.

القطيعة التي بإمكان هذا الشّخص أن يمارسها مع آخرين كانت تربطه بهم علاقة وطيدة، تشبه فعل القتل، ثمّة من ينجو بسرقته أحيانا، وثمّة أيضا من يقع أمام خيار التخلّص من أولئك الذين ضبطوه متلبسا، وباتوا يشكّلون عبئا على أدائه المتقن. 

لكنّ أن يقتل نفسه؟!

لا لا، أعرف أنّه أجبن من أن يطلق على نفسه لقب قاتل، بيد أنّه يحتاج أن تكون ضحاياه على قيد الحياة لكي يتمكّن من التماهي مع حضورهم الذي يفوق حضوره.

أن تصير بشرا آخرين بإرادتك، فأنت بذلك تسلّم نفسك لمصيرك المحتّم، تتخطّى نفسك وهويّتك لأجل أن تختفي، لأجل أن تتنكّر بأداء مع هيئة وهويّة جديدين. تبدأ عندما تنتهي، عندما تدرك أنّك تقف خلف الصّورة التي تعكسها المرآة أمامك، تختبئ، خوفا من عريّك الأبديّ، بأن أحداً ما قد يكتشف حقيقتك.

كيف يكون قاتلا وهو لم يرد في حياته أن يتجاوز أحد، كلّ ما أراده هو أن يحافظ على مسافة طفيفة بينه وبين الجميع، مثل القنفذ بين القنافذ، لا يستطيع أن يبتعد كثيرا لكيلا يشعر بالبرد والوحدة، ولا يستطع أيضا أن يقترب كثيرا لكيلا تقتله الأشواك التي تغطّي أجساد بني جنسه.

أراد أن يقف في مكان يستطيع فيه أن ينظر إلى المرآة، أن يتعلّم منها، كيف يسير بخطى ثابتة نحو نهايته المحتّمة، إمّا نحو الاختفاء داخل أسوار الشّركة وإمّا السقوط الحرّ خارجها.

عندما تعرّف على زوجته لأوّل مرّة، وجد أنّ حياته هي موضع اهتمام لديها، حتّى وجهه وثيابه التي يختارها بعناية تارّة وبإهمال تارّة أخرى، كلامه الذي يتأرجح بين البربريّة والحضارة، كان موضع اهتمام لديها أيضا.

لم يستطع أن يفهم كيف يشعر بأهميّته أحد، أو أن يُشعره أحدٌ بأهميّته. 

كانت هي الوحيدة التي لم يضطر أبدا إلى سرقة وجهها، أقنعته بأنّه يملك وجها يستحقّ السّرقة تماما كالآخرين، وبعدها راح ينظر إلى وجهه بلا تخفٍّ وبلا أزياء واستعارات. شعر بوجود شاربين على وجهه، نظّارات سوداء لامعة تميّزه عن بقيّة الأمناء، او ربّما كان يتمتّع بقدرة فائضة على التفكير في مصيره ومصير الآخرين، دفعته لأن يقتل نفسه في نهاية المطاف، نفسه الوحيدة التي شعر بأنّها تستحق القتل، بسبب الوحدة الشّديدة التي شعر بها بعد أنّ تبرّأ من حياة الآخرين.

الصورة: تصوير مروان طحطح

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button