4 آب 2020 الساعة السادسة والثماني دقائق.

أدخل الغياب الأول.

لا أرى. لا أرى. لمَ لا أرى؟ أريد أن أرى. أريد أن أرى كي أنجو. إذا أردت النجاة لماذا أغمض عيناي؟ لأني إذا فتحتهما للعالم رأيت موتا يضاهي الموت المحتّم. في عينيّ زجاج كثيف. إن أُقتلعت عيناي هل بإمكاني البكاء؟ لا أريد من الإنفجار أن يأخذ عيناي. لا أريد من الإنفجار أن يأخذ قدرتي المهولة على البكاء. فليأخذ يدي اليسرى، أو رجليَّ. لكني أريد أن أظلّ أبكي. إنفجر الصوت في بطني. وسقط السقف من فوقي. سقط فوق رَجُل على مقربة مني. اعتقد انه مات وبات حطاماً. لمَ لم يسقط السقف فوقي؟ لا وقت للأسئلة. كيف أنجو؟ كيف أخلي المبنى؟ الفتاة على يميني تصرخ "يا عدرا" و تركض كالمجنونة. ليس هناك من "عدرا" يا عزيزتي. العدرا لا تعرف كيفية تفجير وتخزين أطنان الأمونيوم كي تستطيع ان توقف الانفجار. لا وقت للكلام. يد ندى على يدي. يد ندى تشدّ على يدي. إنه أمر جيد أن يشد أحدهم على يدك أثناء انفجار كهذا كي تعي انك لا زلت موجودا. او مأخوذا معه في الغياب الكبير.

أدخل الغياب الثاني. 

اخرج من المبنى. الزجاج دخلني. لمسني وعرّاني. هل يرى الناس من خلالي؟ هل بتّ لوحاً زجاجياً؟ على يميني رَجلٌ ميّت او غائب. لا ادري. لا أسطيع أن أرى إن كان "حلو، ومليح، وعيونو عسليّة". غاب وجهه في الدماء وبات رجلا احمرَ اسمه أحمر في مدينة بيضاء تكاد لا تكون. على يساري، أطفال حمراء تركض تفتّش عن امّهاتها. أريد أمي. أين أمي. أريد أكثر من أمّ. أريد أن أرى أولاد أخي. حسناً. بدأت أخرج من الغياب. بدأت أعي الأشخاص والعائلة والأصحاب. اين هم؟ هم بخير. حسناً.

أدخل الغياب الثالث.

أين وقع الانفجار؟ بقربي. إنه على مقربة عظيمة مني. انه فيَّ. بطني ينفجر. تشلّع جسمي. انفصل رأسي عن جسمي. إني أراني من الخارج، إني أرى نفسي من الداخل. أرى فقرة من عمودي الفقري منفصلة عن باقي الفقرات. أعضاء جسدي تهجر بعضها. حسناً. كيف سيتعرّفون على جثتي؟ هناك أساور التحمت مع رجلي اليمنى منذ عدة سنوات. لكنها سوف تحترق مع الجثة. حسناً. فحص  جينيٌ. انه الحل الوحيد. أين أريد أن أدفن؟ لا أريد أن أدفن. أريد أن أُحرق. لكنني احترقت على اية حال. حسنا، فليرموا ما تبقّى مني في البحر. أحب البحر. الفايسبوك! لا أريد من أحد أن يكتب على صفحتي على الفايسبوك. لا اريد قلوباً حمراء ووروداً على الفايسبوك. الأموات لا وقت لديهم لتصفّح الكوكب الأزرق. كيف ألغي حسابي قبل أن أموت؟ تباّ انقطع الإرسال على الهواتف الغبية.

أدخل الغياب الرابع.

المدينة لا تشبه شيء. لا تشبه حتى روايات أزيموف. لا تشبه الخراب. الكلام لا يسع. حسناً. المخيلة. الحل هول المخيّلة. أهرب من المدينة لأنام على أرض بعيدة. لا بشر حولي، محاطة انا بغزلان كثيفة و يعاسيبٍ زرقاء تحط عليّ. حسنا. جميل هذا المشهد. تحتضنني الغزلان، وترضعني حليباً حلواً. حليباً ارتشفه من دون أدنى مجهود. الغزلان أمّهاتي. جميعهنّ أمّهاتي. أتى الانفجار وانفجرت اليعاسيب. خبِلَت الغزلان وبدأت تركض كالمجنونة في بقاع الأرض. لا تهجروني. أنده لهنّ. امّهاتي لا تتركوني وحيدة وسط الموت. دخل الانفجار تفاصيل المخيّلة. لم تستطع أن تنقذني مخيلتي.

أدخل الغياب الخامس.

أمامي رجلٌ لا يبكي. أمامي رجل يحاول البكاء و يفشل. أمامي رجل لا يعرف رقم العنبر الذي قتلني. انه العنبر 12. الأطفال باتوا يعرفونه جيدا. انه العنبر 12. كلنا نعرفه و أنت أيضًا تعرفه جيّدا. إعترف برقمه و اعترف بموتي. أمامي رجلٌ آخر يجول في المرفأ، يديه في أجياب سرواله. لا استطيع قراءة يديه. أرني يديك. أرني يديك. لا تخبّئهما. لا تخبّئ الجريمة. رجلٌ آخر نزل يتلو الفاتحة لأبيه، مدرّعاً بسيارات سوداء وقافلة جحاش من فرق الحماية ينكّلون بالناس في الساحات. أنك شريك في المجزرة. اعترف. رجال آخرون كثر يمرون أمامي. أضعهم أمامي. في غرفة مقفلة. الغرفة رقم 12، حيث لا تستطيع أن تخبّىء يديك في سروالك ولا حماية لديك. أضعهم هناك في الغرفة 12 وليذوقوا العذاب بما كانوا كافرين.


أدخل الغياب السادس.

إلى الآن لم أبكِ.


الأحد 9 آب 2020 الساعة الواحدة صباحاً

اليقظة الأولى

لا أستطيع النوم. أغرق في الأرق. حسناً. سأشاهد بعض الفيديوهات على تلفوني علني أنام. "تهويدة صنع البونبون". أغرق في السكّر والألوان ويد الرجل الذي يعجن السكّر بيديه. تذوب الألوان في بعضها وتبدأ عجينة السكّر بالتصلّب. أنفجر في البكاء. يخرج مني الماء كانفجار وأكثر. يخرج مني الماء والقليل من الغياب. يخرج من عينيّ و من جلدي غبار الزجاج. أمسي أخفّ. بدأت أدخل اليقظة. أدخل إلى صفحتي على الفايسبوك، أدخل إلى إعدادات ما بعد الموت. الخيارات صعبة. يقتضي الخيار الأول أن أسمّي أحد الاصدقاء كي يدير صفحتي بعد مماتي، بينما يقتضي الخيار الثاني حذف صفحتي نهائياً بعد موتي. لا أدري ماذا أختار. اخرج من الفايسبوك وأقول لنفسي عليّ التفكير جديّا بهذا الأمر. أريد المزيد من الوقت. أدخل اليقظة وأعِدُ نفسي أن أموت يوماً مع وجعٍ أقلّ.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button