لم تكن حوارات أو محاضرات TED talks أمراً رائجاً في زمن دوستويفسكي، ولربما كان ذلك أمراً جيداً. لكن في المقابل، لم يكن الناس بحاجة إلى محادثات TED Talks لأنهم كانوا قادرين على الوعظ وقول ما يحلو لهم بعد استهلاك قدر كبير من أرخص أنواع الفودكا التي شهدت عليها البشرية. بطبيعة الحال، ولكي يلاحظ الآخرون وجودك في مثل هذا المكان، يتعيّن على المرء أن يصعد على طاولة ويعظ بصوتٍ عالٍ. بعد يوم بارد وطويل، كان دوستويفسكي جاثماً بِفَخر على إحدى طاولات "بار بازاروف" في سان بطرسبرغ واعظاً:

"لا شيء يُزعج أكثر من أن تكون متوسّط الثراء، متحدّر من عائلة محترمة، تتمتّع بحضور ساحر وتعليم جيّد، طيّب القلب ولست بأحمق... ومع ذلك، لا تمتلك أي موهبة على الإطلاق، لا أصالة، ولا حتى القدرة على طرح فكرة واحدة... بمعنى آخر، أن تكون "تمامًا مثل أي شخص آخر". يعيش عدد لا يحصى من هؤلاء حول العالم، أكثر بكثير ممّا قد يعتقده المرء لأول وهلة. يمكن تقسيمهم اولئك إلى فئتين: الذين يتمتّعون بمستوى ذكاء منخفض والذين يتمتعون بمستوى ذكاء عالٍ نسبياً. المجموعة الأولى هي الأكثر سعادة. ليس هناك ما هو أسهل بالنسبة لرجل عادي يتمتع بقليل من الذكاء من أن يعتبر نفسه صاحب شخصية أصيلة وأن تغمره سعادة كبيرة ناتجة عن هذه القناعة التي لا تقبَل الجدل. العديد من الشابات هنا قرّرنَ أنه من المناسب قص شعرهنّ، وارتداء نظارات زرقاء، والتعريف عن أنفسهنّ كـ"عدميّات" (Nihilists). لقد نجحنَ في إقناع أنفسهن بامتلاك وجهات نظر جديدة نتيجة القيام بذلك ومن دون مواجهة أي صعوبات. حتى اللفتة الصغيرة أو العطف وفعل الخير تجاه إخوانهم من البشر يمكن أن يُشعِر البعض بأنهم الوحيدون الذين يركبون قطار التنوير، وأنه ما من شخص آخر يملك حسّ التعاطف الذي يظهرونه. لا يحتاج البعض سوى قراءة مفهوم ما طرحه شخص آخر حتى يقوموا بسرعة فائقة بامتصاصه فوراً وتحويله إلى مفهوم ذاتيّ فيصدقوا أنه من بنات أفكارهم. وفي حين كانوا غارقين في الرغبة بأن يتمتعوا بالأصالة من الرأس إلى أخمص القدمين، كان ما يسمى بفئة الأشخاص الذين يتمتعون بمستوى "ذكاء أكبر نسبياً" أقلّ بهجة بكثير من فئة أصحاب مستوى الذكاء المنخفض كما ذكرت سابقًا. لأن الإنسان "الماهر المألوف" يحمل في قلبه دودة الشك التي لا تموت، على الرغم من أنه قد يعتقد أنه رجل متألق وأصيل، إلا أن هذا التردّد والشك أحيانًا يصيبان الرجل الذكي باليأس. ولكن في شكل عام، لا يحدث شيء مأساوي…

ومع مرور الوقت، يعاني كبده من بعض الأضرار، لكن لا شيء أكثر خطورة. هؤلاء الرجال يكافحون بجدّ للتمسّك بطموحاتهم إلى جانب أصالتهم، وعلى الرغم من أنهم أناس طيّبين وحتى أصحاب فضل على الإنسانية، إلا أنهم انحدروا إلى مستوى المجرمين في سعيهم وراء الأصالة! أعتقد أن هذا كل ما يجب أن أقوله لكم."

ثم نزل دوستويفسكي من على الطاولة متلبّكاً وعاد للتعفّن على كرسي البار.

سأله رجل يجلس بجانبه: "هل هذا هو السبب في أنك تشرب؟"

أجاب دوستويفسكي: "للشرب أغراض متعددة، فبالنسبة لي، كلّما شربت أكثر كلّما شعرت أكثر. أحاول أن أجد التعاطف والمشاعر في الشرب. وأحيانًا أشرب حتى أعاني ضعف ذلك!"

سأل الرجل مرة أخرى: "فهمت، أنا مهتم بمعرفة من برأيك يتمتع بذكاء كبير؟"

نظر دوستويفسكي في عيني الرجل وقال له: "كقاعدة عامة، الناس أكثر سذاجة وبساطة مما نفترض. ونحن كذلك أيضاً. لكنّي سأقول لك شيئاً واحداً: إذا حطّمتَ رغباتي، وقضيت على مُثُلي العليا، وأظهرت لي شيئًا أفضل، فسوف أتبعكَ."

___________

instagram.com/postphilosophy

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button