"هل كلما ابتسم الغريبُ لنا وحيّانا ذبحنا للغريب غزالةً؟" – محمود درويش

اليوم مَشيت على شاطئ المتوسط الفلسطيني من وادي الحوارث إلى الحَرَم، تحديدًا إلى مقام سيّدنا علي، ومررت أيضًا بأم خالد. المشي يأخذني في أفكار كثيرة، في هذه الأيام يستحوذ على  تفكيري فيلم أنا على وشك إتمامه ويبحث في مسألة إهمال المدينة الفلسطينية والبحث عن حيفا. يأخذني الفيلم طبعا إلى حال السينما الفلسطينية. فأنا أعمل وأصنع سينما سياسية بحب وشغف.

أتّجه جنوباً، وإن تابعت سيري بخط مستقيم سأصل غزة. ذات مرة، كان الساحل مسار قوافل صانعي الفخّار الغزّيين الذين كانوا يحملون فخّارهم على الجِمال  لبيعها في الشمال، في حيفا وصفورية.

الاستطراد 

الاستطراد  يتسلّل إلى عقلي. لا تعي أنه تمكّن منك الّا بعد أن تتنبّه أنك نسيت ما كان يجول في خاطرك قبل دقائق. كان الشاطئ ساحة الأفكار والاستطراد، بعضها أمور شخصية جداً والأخرى مسائل كبرى "أكبر منا"، أقفز من فكرة إلى أخرى، إلى فيلمي الجديد، إلى والدي الذي غادر الحياة وأشتاق إليه أكثر كلّما مرّ يوم آخر على غيابه. إلا أن غزة هي الثابت الذي يطاردني كلما استطردت بين الأفكار.  تستحوذ غزّة على كل المعاني وتعيدني إلى الإدراك . ومن منّا لا يستحوذ وجدانه الصمود والمأساة التي يعيشها أهلنا في غزة وبلادها؟ ورغم ذلك، يشدّني الأستطراد إلى ما يسمّيه البعض وبدون علامة استفهام السينما الفلسطينية. تتضارب مشاعر الكره للسينما، لمن احتضنه الرجل والمرأة البيض واستورد "الخبير" الأبيض ليلقّننا "خبايا" المعادلة السحريّة التي تضمن الدخول إلى ساحته والإنحناء لتقبيل يديه تعبيراً عن امتناننا أنه أفسح لنا المجال لأن نكون كالخادم المطيع، فنحصد تمولاً من أجل إعادة صياغة الاستعمار الفكري بمصطلحات "وطنية". أمّا أنا، فلا خيار لي إلا المقاومة والتمويل العربي من أجل صنع أفلام مديونيتها أضعاف ميزانيتها. المديونية هي حال من يتّبع نظرة وأسلوب وفكر بديل ينتمي إلى بيئته. فتكون شخصياته هي الذات والموضوع في نفس الوقت على عكس الأفلام التي نكون فيها نحن الموضوع فيما تكون الذات محصورة بالرجل والمرأة البيض . التفكير بهم يدفعني إلى الصراخ. أنا أكرههم  لأنهم يجمعون بين الغباء والدونية. ثم تذكّرت ما يقولون دائما:

"لا تكره 

وأحب لغيرك ما تحب لنفسك . 

لا تكره"

وأنا أكره الظالم المحتل والمغتصب وأكره المتطفّل على السينما الفلسطينية الذي لا يقل دوره عن دور الإستعمار والصهاينة في تخريب وتدمير الثقافة والسينما الفلسطينية. كنّا نرى أولئك في زمن "سلام اوسلو" يقفون في الواجهة، وفي زمن الصمود والمقاومة نراهم أيضاً في الواجهة. يعجز  حتى الماغوط ومسرحيات دريد لحام ومسلسلاته عن توصيفهم . هل أنا على خطأ إذا عبّرت عن كراهيتي لسرطان مستفحل في ثقافتنا والسينما التي يموّلها ويحملها الرجل الابيض بين الجزائر والسويد لتتكاثر وتنتشر لكي يُنصّبها ممثلاً عنا؟ 
ولكنّي أحبّ، وأخاف البوح بهذا الحبّ. 

فكّرت بما يمكن أن يحدث لي إن عبّرت علانية عن حبّي وفخري بمن هم تحت الارض، من شهيد ومقاوم، من أمل وصمود، من تضحية ومناشدة. سيكون السرطان والمستعمر في المرصاد بالطبع. هم الذي يرفضون تنظيم وقفة رمزية ويتمسّكون بامتيازاتهم من أجل استيراد طاقم فرنسي من مصوّر ومونتير من الدرجة الأدنى لصنع أفلامهم. أما الكفاءات الفلسطينية، فيعطونها في أحسن حال دور المساعد. 

يرفضون أن يطرحوا السؤال عن دور فرنسا في التطبيع وسحق طبقة المثقفين العربية عموماً وإخضاعها للمشروع الصهيوني كما تفعل مع مثيلتها الفلسطينية. عسى أن يدرك هؤلاء أن تمويلهم  هو سُمّ يٌدسّ في وعينا وصراعنا وثقافتنا. الخنادق تنتظر معركة أكبر للقضاء عليهم وهذا ليس ضرباً من الهذيان . ولكني أحبّ… كفى استطراداً.

البحر 

أمشي على أجمل شاطئ في الكون. ليس لأنه جميل فحسب - وهو الأكثر جمالاً على هذه الضفة من المتوسط - بل لأنه وطني. 

لم نشهد منذ عشرات السنين مطراً وطقساً شتوياً كهذا الشتاء. تتغيّر حال الطقس كل ساعة: ماطر، مشمس، غائم. تغرق في المطر ثم بعد ساعة تلسعك أشعة الشمس. يتوقف التفكير الاستطرادي وتختفي مشاعر الكره ليحل مشاعر الفضول والفرح مكانها. وبين أم خالد والحرم تقع عيناي على  كيس لمُنتَجٍ ما قدم من مدينة درنة الليبية، قذفه البحر على الشاطىء. العالم العربي عندنا يا مرحبا يا مرحبا.

دفعني فضولي إلى النظر من حولي وبدأت أنبش في نفايات الوطن العربي لأجد عبوة عصير "جهينة" "عالية الجودة" آتية من مصانع مدينة 6 اكتوبر في مصر.

ثمّ التقطّ عبوة سائل للجلي قادمة من  سوريا تحديداً ريف دمشق، وعبوة ماء قادمة من غمدان في اليمن. 

إلّا أن المفاجأة الأكبر كانت عندما وجدت كيسًا مغلقًا كُتبَ عليه غزّة (تبعد غزة من المكان ما يقارب الـ 80 كيلومتر).

لا أذكر كيف بدأت التفكير في رمزية أشياء يقذفها البحر. فالبحر لا يحترم الحدود وبحق. سألت نفسي عن الرمزية في نفايات وبحر وفلسطين والوطن العربي وكياناته السياسية: لماذا يقذف البحر نفايات الوطن العربي على ساحل فلسطين؟ الشيء الوحيد المختلف كان كيساً فتحته فوجدت فيه أحذية تركية لم يستخدمها أحد بعد وقذفها بحر غزة.

لم أجد رمزية تربط نفايات الكيانات العربية ببعضها. ثم رأيت كيساً من السّكَر كُتب عليه "صنع في الإمارات العربية". سألت نفسي مجدداً: هل  من رمزية لما قصده البحر بقذفه نفايات الوطن العربي إلى سواحل فلسطين مع أحذية غزة التي لم تدسها أي قدم من أقدام أهلنا في غزة؟ وهل من كان سيلبسها مات في القصف المهول والقتل المستمر في غزة؟

نسيت كرهي وزاد حبّي. أحيانا لا حاجة للرمزية لربط الأمور فالوعي قادر على ربطها، أن تربط السكّر بالكره وربط المقاومة بالأمل .

الأزمة 

 مشيت مسافة 30 كيلومتر. كنت أنوي المشي حتّى يافا إلا أن ظرفاً أوقفني في الحرم عند مقام سيدنا علي فعدت إلى بيتي حاملاً معي الأحذية التي لم يلبسها من مات في غزة.

النُّفايَات: جَمع النُّفَايَةُ.

بقيَّة، فضلة، أو ما زاد على الحاجة.

ما أَبْعِدَ من الشيءِ لرداءته.

والنُّفَايَةُ بقيّةُ الشيء: ونُفَايةُ المطر: رَشاشُه (المطر القليل).

ويقال: هو من نُفَايات القوم: ومن رُذالِهم.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button