قبل 16 عاماً دخلت بيروت لأول مرة، حين خرجت من مطارها سمعت صدفة أغنية "أهلا أخوي فيك بالمخيمات"

سأنطلق من الساحل الشمالي ليافة القدس، من الشونة / تل قاضي وأدخل مصبّ نهر العوجا على الضفة الشمالية لأصل قرية الجريشة، وأصعد إلى تلّها أو تل نابليون في الضفة الجنوبية ثم أمشي على ضفة وادي المصرارة الشرقية فأصل إلى الضفة الجنوبية للعوجا حيث حوض ملتقى وادي العوجا والمصرارة أو مصب المصرارة في نهر العوجا ثم جنوباً إلى الجماسين الغربية والمسعودية / صميل، فالمستعمرة الألمانية سارونا ثم غرباً إلى تل جبلي ومن هناك إلى المستعمرة الاميركية ومن ثم إلى يافا لينتهي يومي في ساحة الساعة المَعلَم الأهم لمدينة يافة القدس.

عاصمة المثليين

أخطط مساري والشوارع التي سأمرّ بها مسبقاً، دُهشت حين علِمتُ أنّ يوم الجمعة هذا، يومي الأسبوعي للمشي، سيشهد أيضاً مسيرة المثليين الصهاينة: "مسيرة العزة والفخر" في يافة القدس (تل أبيب)، ما سيؤدي إلى إغلاق شوارع ومسارب برمتها. كنت حائراً بين إلغاء المشي وتأجيله أو البحث عن مسارات بعيدة عن مسيرتهم. أتعجّب كيف أصبحت تل أبيب يحسدها كُثر من مثليي بلاد الشام وملجأ لمثليي السلطة الفلسطينية. ويصعب عليّ نسيان تلك المجموعة المثلية من بلد من بلاد الشام التي قامت برعاية فيلم صهيوني استعماري بامتياز اسمه "الفقّاعة" على رغم أن الفيلم يقوم بتسليع الشخصية الفلسطينية المثلية التي تقع في غرام ضابط إسرائيلي. وبلادنا لا تخلو من مثليين وغيريين يتمنّون أن يكونوا سلعة أو عبيدًا لنزوات سيّدهم الأبيض والأدب والأكاديميا والسينما تتطرق إلى مثل هذا المرض المزمن. أقرّر المشي وكتابة الأحداث في مجلة "رحلة"، وستكون صورة رسمتها في خيالي وأرفقها للنص هي انتقامي من كل هؤلاء المثليين (وغيرهم) من بلاد الشام المبهورين بتل أبيب.

الصورة: أمشي عكس اتجاههم في مسيرتهم، لأشقّها. مثليان صهيونيان على يساري ويميني، ظهرهم ومؤخرتهم في الكادر ووجهي في مواجهة الكاميرا. هم بملابس داخلية كملابس راقصات السامبا وأنا في ملابس المشي المعتادة وحقيبتي على ظهري.

الثرثرة 

باكراً أستقلّ سيارتي في طريقي إلى ضواحي يافة القدس (وهي اليوم مستعمرة تل أبيب). أمرّ بعشرات القرى المدمّرة والتي أخليت من أهلها: القيري والقامون وأم الزينات وعين غزال وأم الجمال. أنزِل وادي الملح، على يساري قرية زمارين وعلى الشاطئ غرباً الطنطورة.

عند وصولي إلى عرب المفجر وأرض عرب الفقرا وعرب النفافعه وعرب الضمير، تهطل الأمطار بغزارة غير مسبوقة. إنها أواخر شهر حزيران، أمطار طينية، هواء بارد ينبعث من المكيّف داخل سيارتي ومطرٌ كثيف يهطل في الخارج. إنه مشهد شتائي، وأعشق هذا المشهد، إلا أن إذاعات الثرثرة الناطقة بالعربية تعيق فرحتي، هرباً ألجأ إلى محطّة عبرية تبثّ موسيقى كلاسيكية على مدار الساعة، ولكنها الآن تذيع كلاسيكيات صهيونية عبرية. أبحث عن محطة أخرى، ثلاث محطات عربية اسرائيليه/صهيونية بترخيص إسرائيلي وتحت مراقبة مخابراتها وتوجيهها. أسلوبها تقليد أعمى لثقافة الإذاعات الصهيونية. أما إذاعات أراضي السلطة الفلسطينية فثرثرتها مختلفة. جميع الإذاعات في هذه الساعة تبثّ أغاني فيروز أو "آيات من الذكر الحكيم". أتعجّب كيف أن شعباً بأكمله من الخليج إلى المحيط وبالأخص في بلاد الشام قاطبة يستيقظ على سماع إما فيروز أو القرآن الكريم. لا استطيع تحمل صوت فيروز وامقت الرحبانية آباءً وأولادًا. أبحث عن محطة أخرى. وكما النهايات السعيدة "ألتقط" إذاعة تبثّ أغنية "دارت الأيام" لأم كلثوم بصوت مغنية شابة. سُررت… أنظر إلى شاشة الراديو لأحفظ إسم هذه المحطة التي لا تخضع لسطوة الابتذال الرحباني (الكيتش). لم أصدّق ما أرى. إنها إذاعة صهيونية اسمها "culture" (ثقافة) - تقليد للإذاعات الأوروبية التي تبث أغاني "متعددة الثقافات". أعبر الجسر فوق وادي اسكندرونه. ها أنا قد وصلت عرب الحوارث وأم خالد إلا أن خيالي مأخوذ بتصميم تلك الصورة. أشقّ مسيرتهم وأنتقم.

كتيبة على الجسر

أركن سيارتي في الشونة/ تل قدادي. أقترب من الجسر الذي يربط الضفة الشمالية لنهر العوجا بضفته الجنوبية. كتيبة عسكرية بملابس رياضية موحّدة تعبره جرياً. أفراد وأزواج وفرق صغيرة من ابناء طبقة المستعمرين الوسطى ينتشرون في كل مكان، يمارسون رياضة "الكسدره" والركض. وفي مياه نهر العوجا من يمارس هواية التجذيف. إنه المكان الوحيد الذي أعشقه على الرغم من كونه إستعماريًا صرفًا. أتقدّم تحت الجسر الثاني وأمشي على ضفة النهر في أرض عرب العرايشه وحلّة السماك والقشاش قريباً من مصب نهر العوجا. في الضفة الثانية أمامي حي مؤلّف من أبراج شاهقة. أرى مجموعة من النساء والرجال في آخر العقد السابع من عمرهم أو مطلع العقد الثامن، يحملون كاميرات ويمارسون دورة تدريبية لهواة التصوير. أطلب من احدهم/ن أن يلتقط لي صورة. أقف على حافة الضفّة وظهري إلى الكاميرا وأمامي على الضفة الثانية أبراج حي أقيم على أطراف المسعودية المهجرة. أمّا نهر العوجا الفاصل بيني وبين تلك الأبراج، فيبعث فيّ السكينة، هذا وطني وبيتي... ولو أنه مستعمَر.. السيدة الثمانينية تقول "لقد التقطت لك أكثر من صورة. اختَر ما تستحسن ثم أعادت لي هاتفي." … "صورتُك مع النهر والأبراج جميلة" تابعَت. شكرتُها بلغتها العبرية وانصرفت. ما زالت الحركة مستمرّة، بعض كبار السن الخارجين للكسدره فردوا شمسياتهم كي يحتموا من الأمطار التي تتساقط بكثافة. أمضي في طريقي في هذه الناحية من ضواحي يافة القدس. لا أحد منذ اربعين عاماً يطلق على هذه الناحية هذا الإسم ولا أحد يُطلق على يافة القدس هذا الإسم.

"الترويض "

أشعر بالسعادة هنا. منتزه كبير يجمع الريف بالمدينة. وهذا الصنف من المستعمِرين والمستعمِرات لا يهمّني التصادم معه. أعرف جيداً عباراته وخطاباته والحجج التي يستعملها حين يكتشف أنني إبن البلد. حفظت تكتيكاته عن ظهر غيب، أتجاهلهم أو أتسامح معهم. معظمهم من المستعمرين الشّرق أوروبيين، من الرعيل الأول لمؤسسي هذه المستعمرة، منهم اليميني المتطرف ومنهم الليبرالي اليميني. أمّا اليسار فهو شبه معدوم بين الصهاينة. أستمتع بالمكان وبمشاهدة هذه الطبقة الوسطى التي أعرف جيداً عنفها، مراوغاتها، قذاراتها، فذلكاتها وعنصريتها وشوفونيتها وتأنيب ضميرها عندما يكتشف المنتمون إليها أنك إبن البلد (فلسطيني). يبتسمون ابتسامة ودّية عريضة، فأنت إمّا حيوان أليف أو وحشٌ برّي يجب ترويضه. يخاطبونك بهدوء. فيهم سكينة المسيطِر، يندهشون حين يعرفون أنك "عربي" وإن عرّفت عن نفسك بأنك فلسطيني (وأنت حامل الجنسية الإستعماريّة) فسيسامحونك على هذا "التعريف - الخطيئة". هم دائما "يتفهمون" تصرّفاتك حتى لو كانت "غير لائقة - متطرفة" أو"تخدش مشاعرهم". إلا أن الإطراء الكبير يطرق أذنَيك عندما يقولون بفرح وعاطفة وإثارة تلكَ الجملة الاستعماريّة الأزليّة "ملامحك لا تُظهر أنك عربي". وأحياناً يردّدون، ودائماً بروح الودّ والاطراء: "أنت تبدو تماماً مثلنا" وإن أرادوا "الإطراء" مع "سكّر زيادة" يقولون "تبدو أوروبياً". أقترب من مجموعة نصب تذكارية شيّدت لتخليد قتلاهم الذين قضوا في حروبهم معنا ومع جنود ومقاومين عرب من "دول الطوق"، ألتقط بعضَ الصّور وأمشي.

"عفواً هل تحتاج مساعدة" 

أمشي وأكتب وطني. كلّ شيء في وطني المستعمَر يُثير غضبي. هنا… أعرف كل بقعة، أعرف إسمها الحقيقي وليس الصهيوني، أعرف حتى أسماء عائلات سكنت هنا وأعرف عن تاريخ المنطقة ما يكفي لألقي محاضرة لطلاب التاريع والجغرافيا والعلوم السياسية. إلا أن سعادة عارمة تغمرني، فهذا هو المكان الإستعماري الوحيد اللذي أعشقه، فنهر العوجا يفسد الحال الاستعماري، عدا أنّي أحب هذا النوع من الريف الإصطناعي المدني، والذي يتميّز بالاغتراب والفردانية…  لن أفسد لحظة سعادتي القصيرة هذه. خارطتي في يدِي. أدقق فيها لأتاكد من أنّي في سكنة شاكر، فعلى يساري قرية الشيخ مؤنس (مونس) التي كان أهلها من المتعاونين مع الحركات الصهيونية المسلّحة وساعدوهم على احتلال القرى والمناطق المجاورة لهم، ليُطردوا لاحقًا بلا رجعة إلى مخيمات اللّجوء. أقيمت جامعة تل أبيب على أنقاض القرية. أما مساكن الطّلبة فأقيمت على المقبرة. إلى جانبها ما يَشيع حقيقةً أو يُعتَقَد أنّه مقر المخابرات الداخلية العامة. يتوقّف أحد المستعمِرين عن الركض ويسألني إن كنت بحاجة إلى مساعدة، أشكره بلغته فيجيب: "هل تبحث عن شيء؟"، فأجيب: "شكراً". ينظر إلى أوراقي. أنزعِج فأقول: "هل تقرأ العربية؟ّ يبتسم ويقول:"كلا"، ثم يضيف "ما هذا التي تنظر اليه؟". أردّ ممازحاً: "يبدو أنك أنت من يحتاج للمساعدة".

في يدها توراة

اقترب من قرية الجريشة. أرى أبراجاً شاهقة. المشهد جميل. هناك كانت جماسين الشرقية، أمّا اليوم فعلى أرضها وفوق أنقاضها أقيمَت مستعمَرة/مدينة صهيونية. أنظرُ مليّاً في المشهد، تفرحني مياه العوجا والخضرة المصطنعة. أفلح بتثبيت الهاتف بوضعية تسمح لي بالتقاط صورة خلفية لي مع هذا المشهد الآسر. أضع الهاتف في جيبي وأدخل مباشرة إلى الجريشه، عمرها من عمر والي يافة القدس المملوكي محمد أبو نبوت. شيّد فيها سبع طواحين، وكان الدقيق الذي استخرج من تلك الطواحين يغذي ثلاثين ألف إنسان في ناحية يافا. إلا أن الجريشه اشتهرت لكونها ملهى ومتنزه ميسوري يافا فعجّت بهم المقاهي والمطاعم والزوارق، ولم يكن فيها مدرسة أو جامع أو كنيسة. حَكَمَ أبو نبوت يافا بعد أن دمّرها نابليون وارتكب مجزرة بحقّ أهلها وقتل جنوده الأطفال والمسنّين واغتصبوا النساء وقتلوهنّ. (مدينة البرتقال - يافا - حضارة ومجتمع، 1799-1840، تأليف محمود يزبك). أمّا الصهاينة فحافظوا عليها وأطلقوا عليها إسم "المطاحن السبعة". في أسفل الدرج حيث المدخل، أعادوا بناء إحدى المطاحن. أجِدُ مَقعدَين للاستراحة فأجلس لتناول إفطاري وشرب الزهورات. فجأةً أرى إمرأة يهودية تقف بجانب قنوات المطاحن وتحمل بيَدِها سفر من التوراة تقرأه بخشوع. لفتني المشهد فقرّرت أن ألتقط صورة، أقترب منها ولا أرى سوى ظهرها، أضع على عينيّ نظاراتي الشمسية لاخفي نظراتي الموجّهة إليها، أتجاوز مكانها فأرى وجهها، أتأمّله، حزينة، مأزومة، أبتعد عنها وأصوّر النهر. إلّا أنّي لا أنفك أفكّر بأزمتها… أبتسِم وأنزعج لاهتمامي بما هي عليه. أمشي بهدوء حتى لا تراني أعبر من أمامها. ها هي تنظُر إلى المياه والتوراة بيدها. على بعد أكثر من عشر أمتار أستدير وهاتفي مُعَدّ لالتقاط صورتها فتَقَع عينيَ على عينيها. تنظُر إليّ ثمّ تحيد بناظريها بسرعة وتتابع قراءة التوراة. ألتقط الصّورة، تنظر إليّ بهدوء، تحرّك رأسها بلطف، ينتابني شعورٌ بالحَياء، تُدير وجهها إليّ وتقف في الجهة المقابلة لتتمكن من مشاهدة تحركاتي، أعود إلى المقعد، أشعِل النّار وأغلي مشروب الزهورات، أُخرج زادي وأنظر باتجاهها.. اختفت.

البيت الفلسطيني الأخير في صميل-المسعوديه

أذهب إلى المسجّل الآلي الذي يبثّ تاريخ المكان كما يحلو للصهيوني سرده بثلاث لغات، أختار العربية وأجلس أتناول زادي وأُصغي بسخرية، إلى سرد الصهيوني لتاريخنا وإلى "المثقّفين" الفلسطسينيين والعرب الذين حوّلوا حقائقنا إلى "الرواية الفلسطينية".

تل نابليون

لا زال لديّ متّسع من الوقت للوصول إلى مسيرتهم والتقاط الصورة التي رسمتها في خيالي، صورة الكيد.

أتّجه جنوباً إلى أرض العمادية. أصعد التلّ المقابل للجريشه اسمه تل الجريشه أو تل نابليون. يقع التل اليوم بين مدينتي تل أبيب والمدينة الملاصقة لها شرقاً. يدهشني هذا التل فما زال على حاله والصبّار قائم عليه. قرأت في مكان ما أن التسمية مردّها أن جيوش نابليون تمركزت هنا لعبور نهر العوجا شمالاً إلى عكّا.

شجر الصبار مريض وبُقعٌ بيضاء تنقر كلّ صفائحه. أرى شخصاً من جمعية المحافظة على البيئة منهمكاً بحمل صفائح الصبار ويعيدها إلى شجرتها. يعمل على معالجة المرض، فلقد جلبوا جرثومة من استراليا تلتهم الجرثومة الصهيونية التي تدمّر شجر الصبار، وهو يضع صفائح تحمل الجرثومة الاسترالية في الأشجار المصابة فتلتهم تلك الخبيثة. التلّة الريفية لم تمحَ منها أي آثار فهي بكامل الشموخ والحضور الفلسطيني وسط أكبر تجمع صهيونيي مديني. أنزل من على التلّة على مقربة من الضفة الشرقية لوادي المصرارة ومنبعه جبال القدس، تحديدا في أرض الدهيسية. مجموعات من نساء ورجال برفقة كلابهم منخرطون في نزهتهم الصباحية، أسمع خلفي سيدة تردّد معلومات عن التغذية السليمة والبرنامج اليومي على شخص إسمه عوفر، أدير رأسي إلى الوراء، زوجان تتوسطهم مدربتهم في أواخر الأربعين من عمرهم، على اليسار إمرأة قدّها مياس وعلى اليمين رجل طويل القامة. يحيد الثلاثة عن المسار ويستلقي الزوجين على العشب الأخضر ويبدءان بممارسة التمارين حسب تعليمات المدربة. أتابع المشي، أصل إلى مصبّ وادي المصرارة في حوض نهر العوجا حيث يلتقي الاثنان في البحر المتوسط. إتّساع المجرى في هذا المكان جميل. أمشي بمحاذاة المصرارة، أصعد سلّما وأدخل نفقاً داخل جسر إلى الضفة الجنوبية لنهر العوجا ومصب المصرارة… تحديداً إلى الحلّة.

"مكان مقدس"

أسرّع خطاي بمحاذاة تل الحشّاشين كي ألحق بمسيرة "الفخر". أتجه جنوباً إلى الجماسين الغربي، أعرف المكان جيداً فقد مررت به كثيرًا وسكنت في هذه المدينة/المستعمرة (تل أبيب). وهنا كانت إنطلاقة حرفتي السينمائية، وكان مونتاج أول أفلامي التسجيلية ليس بعيدًا من هنا في أحد الأبراج التي بُنيَت على أنقاض جماسين الغربية في الحد الفاصل بينها وبين جماسين الشرقية. لم اكن أعلم بوجودها.

أقفُ قبالة البرج الذي عملت فيه مونتاج أول فيلم لي. لكنّ الأبراج الأقرب منّي أجمل، اركن هاتفي إلى جانب سياج لالتقاط صورة تجمعني مع الأبراج. يَقَعُ الهاتف… أمدّ يدي من خلف السياج لألتقط حجراً صغيراً أثبّت به الهاتف، أنظر إلى يافطة مرفوعة فوق راسي فأندهش، كتب عليها بالعبرية "مكان مقدّس… مقبرة إسلامية جماسين، الوقف الإسلامي - تل أبيب يافا". أما بالعربية فكُتب فقط "مقبرة إسلامية جماسين، الوقف الاسلامي- يافا

الأبراج واليافطة والمقبرة الإسلامية - الجماسين

سراديب النبيذ

أتّجه غرباً إلى المسعوديه - صميل. على أنقاضها أقيمَ ميدان أطلقوا عليه إسم "ميدان الدولة". المأكولات والملابس والبيوت هنا باهظة الثمن فهي مَعقل النوفو ريش (أثرياء الحرب). (يستعمل العرب تعبير "أثرياء الحرب" وليس "الاثرياء الجدد". ولا مجال هنا لإدراج تاريخ استعمال الكلمة، إلا أنها مطابقة تماماً لتوصيف الصهاينة الذين قدموا معدومين من أوروبا الشرقية أو "الاوست - يودين" وأصبحوا اثرياء بعد 1948 عبر نهب الأملاك والوطن أي أثرياء حرب أو "نوفو ريش". إختلفَت صورة الميدان عن تلك التي عهدتها. المحلّات المحيطة به هي نفسها، لكن الميدان لم يعد ميداناً، فقد أقيمت عليه أبراج عدّة. أُكمل طريقي إلى صميل وقد شقّها شارع رئيسي سُمي على إسم الشاعر الأندلسي اليهودي سلمان إبن يحيى إبن جبيرول. في طريقي إلى هناك أتابع تصحيح اللقطة التي أنوي التقاطها حينما أشقّ المسيرة: على يميني وعلى يساري مثليان صهيونيان بملابس السامبا. مشيت يافة القدس وضواحيها أخر مرّة قبل ثلاث سنوات عندما زرت آخر بيت امتلكهُ فلسطيني من أهل صميل، وكانت المرة الثانية التي أدخل بها ساحة ذاك البيت الذي سكنته سيدة يهودية يمنيّة. في المرّة الأولى طلبت منّي أن أترك المكان فوراً . أمّا في المرة الثانية فكانت لا مبالية. كذبت وقلت لها أنّي حفيد صاحب البيت الفلسطيني. ردّت بمرارة أنهم يطردونها لأن شركة مقاولات تنوي بناء أبراج سكنية في هذا المكان، ولذلك سمحت لي بتصويره كما يحلو لي. سأمرّ به الآن لأرى ما الذي حلّ بالبيت. الهدوء ورائحة بول بشري كريهة يملآن الفضاء. أمّا أعمدة الإضاءة في وسط الشارع فيزيّنها علم المثليين. أنظر إلى المساحة التي كان البيت الفلسطيني الأخير فأرى منشآت تشيّد على قدم وساق. أقترِب وإذ بالبيت ما زال قائماً. أكتشف لاحقاً أن السّيدة اليهودية اليمنية استصدرت أمرًا من المحكمة يقر بملكيتها للبيت، فلَم يُهدَم. أترك المكان متّجهاً جنوباً ثمّ شرقاً إلى المستعمرة الألمانية سارونا التي أنشِئَت في ضواحي يافا سنة 1871 وهي واحدة من أقدم المستعمرات الأوروبية في فلسطين وجميعها مستعمرات ألمانية مثّلت الحاضنة والنموذج الذي اتّبعه الصهاينة وبنيت في أعقابه المستعمرات الصهيونية. كانت حجة الاستعمار الألماني (الهيكليّون) لبناء الهيكل التحضير لعودة المسيح واستقباله، وأنهم الوحيدون القادرون على حماية "أرض الرب" لأن المسيحيين العرب لم يصلوا بعد إلى درجة البشر. سأزور مصنع نبيذ حفظوا في دهاليزه براميل النبيذ للتعتيق. إلا أن المستعمِر البريطاني صادرها بحجّة أن المستوطنين الألمان هم رعايا دولة عدوّة، فبعثوا بهم من فلسطين إلى أستراليا، وسمحوا للصهاينة باستخدام المستوطنة الألمانية لإخفاء طائراتهم التي استُعمِلَت في طرد أهلنا وتدمير المدن والقرى الفلسطينية. أصل إلى مصنع النبيذ واكتشف أن جميع منافذه موصدة.

الخيبة 

اتجه نحو الشاطئ غرباً. سألتقط الصورة هناك، لا هاجس عندي غيرها. سألتحق بمسيرتهم بمكان كان سُمّيَ يوماً مقام الشيخ عبد النبي ومقبرة أهل الصميل والمسعودية، وأقيمَ عليه فندق لإحدى العلامات العالمية. أقترب من المكان فأسمع صخبَ المسيرة. يرنّ هاتفي. على الجهة الثانية إبنتي زينب. كنا قد اتفقنا أن أمر لتصطحبني لقضاء نهاية الأسبوع في بيتنا. زينب معيد في جامعة تل أبيب. تدرس وتسكن في ما كان يوماً الشيخ مؤنس (مونس)، تستفسر عن ساعة قدومي لتصطحبني، أقول لها "ألتقط صورة في مسيرة الفخر". تستغرِب وتقول "المسيرة كانت في الأمس!". أجيبها أني قرات بأن المسيرة ستقام اليوم…  "بابا أنت دايما مضيّع" …"اليوم عندهم حفلة قرب نهر العوجا"… أجلس على قارعة الطريق، أشعر بالضيق، فمكان الحفلة اليوم ملاصق لقرية الملاهي الجريشه. لقد كنت هناك. أقرر أن أكمل المشي في مستعمرات الشعوب التي دَمّرت وما زالت تدمّر وطني وشعبي، فبعد أن زرت المستعمرة الألمانية سأزور الموقع التي انطلقَت منه أول مستعمرة/ مدينة صهيونية (تل ابيب) والتي تقع بين المستعمرة الألمانية والمستعمرة الاميركية الملاصقة لمدينة يافا.

سرسق وعماراته الجميلة

أصل تل جبلي حيث شيَّد المستعمرون الصهاينة في 1909 حيّ "احوزات بايت" الذي سيصبح مستعمرة تل ابيب. الإسم مأخوذ من عنوان رواية هرتسل المترجمة من الألمانية إلى العبرية بهذا الإسم وترجمتها الحرفية "الأرض القديمة الجديدة". أما الدوافع التي يذكرها المؤرخون الصهاينة لبناء المستعمرة على يد المستعمرين الذين استوطنوا في يافة القدس فهي أن الصهاينة "أرادوا أن يسكن ويكبر أولادهم بعيداً عن أولاد يافا القذرين جسدياً واخلاقياً". ("كتاب تل أبيب" الجزء الاول، تحرير آ.دروفيانوف - 1935). إلا أن اللافت هو أن بِناء الحيّ، وهو يتوسّط المستعمرة الالمانية والأميركية ، وحسب بحث صهيوني صادر عن جامعة "بار- إيلان" هو تقليد أعمى لنمط عيش المستعمِرين المحيطين بالمستعمرة الصهيونية الحديثة الولادة.

أوّل بيت شُيّد في تل أبيب سنة 1909 وكان اسمها أحوزات باييت

خيبتي من عدم التقاط الصورة لا تفارقني. أترك المكان الذي أحفظ تفاصيله بدقّة. أمشي باتجاه المستعمرة الأميركية التي هجرها المستعمرون بعد فترة وجيزة وعادوا أدراجهم ليستحوذ عليها نظرائهم الألمان. أمُرّ أمام الكنيسة وأمضي حتى تقاطع شارع النزهة وشارع نجيب بسطرس قلب يافة القدس، أنظر إلى العمارات الجميلة في شارع بسطرس التي كانت يوماً ما ملكاً لسرسق - إحدى أكثر الشخصيات تأثيراً في سقوط فلسطين. ترفرف أعلام المثليين في شارع نجيب بسطرس. أركن هاتفي على عتبة مدخل إحدى عمارات سرسق الجميلة والتي أصبحت مطعماً يرتاده "أثرياء" المستعمرين. تخرج امرأتان وفي يد كل واحدة منهنّ سيجارة وولعة. إحداهن تسأل إن كنت أريد المساعدة، "هذا من لطفك" أقول، أعطيها هاتفي، تلتقط لي بعض الصور ثم تناديني متجهمة الوجه وتعيد إلي هاتفي ثم تقول: "ظهر كتابة غريبة على الشاشة فتوقّف الهاتف عن العمل. أنظر إلى شاشة الهاتف: "شحن البطارية منخفض بقي من البطارية 1٪".

في دوار الساعة استقلّ الحافلة وأنزل حيث ركنت سيارتي. أتوجّه لألاقي بنتي زينب، كم اشتقت إليها… تقود السيارة وننطلق إلى بيتنا هناك في الشمال.

أمام الكنيسة الهيكلية في المستعمرة الأميركية الملاصقة ليافة القدس
أمام بنايات في شارع نجيب بسطرس كانت سابقاً ملكاً لآل سرسق وزيّنها الصهاينة بأعلام المثليين

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button