لماذا تظهر الدُرجة (أو بالاستعمال السائد الموضة) وتنتشر؟ في الواقع، يمكن للإجابة أن تكون بسيطة: لأنّه يوجد من يخترعها ويسوّق لها. في الماضي، كانت الثياب مثلاً وطريقة الكلام وحركات الجسد ثابتةً إلى حدٍّ كبير. اختلف الناسُ في نوعية ثيابهم وطرازها وزينتها باختلاف مواقعهم الاجتماعية والطبقية. إذًا، وعدا عن ضرورتها الحيوية من ناحية ومحمولاتها الثقافية الروحية من ناحية أخرى، لم تكن الثياب إلاّ علامةً للتفريق الطبقيّ. الناس مختلفون في النحلة من معاشهم. وعليه، سيختلفون في النحلة من لباسهم. كانت الحدود بين الطبقات صلبةً إلى درجةٍ لم يكن بإمكان مزارعٍ أن يقلّد مَلِكَه في اللباس. اليوم تغيّرت الأمور. سمحت الرأسمالية بتحرير شيفرات الجسد وقيوده ولكن من أجل إعادة إنتاج الهيمنة وتوزيع الرموز. الدُرجة اليوم نتاج من نتاجات الهيمنة: هيمنة رأس المال. هكذا، بكلّ بساطة وبداهة الواقع الذي نلمسه يوميًا. والدُرجة بما هي شيءٌ جديدٌ ليست حقيقةً على هذا الشكل، بل هي ما يُراد له أن يكون جديدًا، لا لأنّه كذلك، بل لأنّ الجديد قابلٌ للتسويق والاستهلاك، أي تحقيق أرباحٍ لمن يبيعه. اليوم أصبح بإمكان الفقير تقليد الغنيّ في لباسه وطريقة كلامه وحركات جسده، وفي ما يسمع ويقرأ ويرى. ولكنّ الفقير لا يستطيع تقليد الغني في شراء هذه السلعة أو تلك، سيشتري أرخص منها بكثير ولكن ستكون شبيهةً لها. 

الدُرجة تنطوي على تكرار الشبيه، أو بمعنى أدقّ على تكرار الشبيه الأتفه. هي تقليدٌ بالرغم من كونها كما يظهر للوهلة الأولى محطّ تميّز واختلاف يناقض التقليدي والاعتياديّ. أمتلك شيئًا جديدًا ودارجًا وعليه فأنا مختلف. ولكنّها صورة مخادعة: ما أزعم أنّه جديد أمتلكه هو حصيلة محاولتي تقليد أحدٍ غيري امتَلَك هذا الجديد قبلي. إنّها ملكية عمومية أصلها ملكية خاصّة. وروح المنافسة الحقّة تكمن في من بمقدوره أن يتملّك الجديد والمستجدّ في عالم السوق، أو بمعنى آخر في من يقلّد، ولكنّه يشتري ما ترمز إلى تحقيقه عملية التقليد.

ولكن لماذا علينا أصلاً اللحاق بالدُرجة؟ لغايتين: الاندماج والفُرجة. ألبس مثل غيري واتتبع الأنماط الجديدة السائدة في تصفيف شعري وتزيين نفسي رغبةً منّي بالاندماج في مجتمع يعترف بي على هذا النحو. إذاً، إذا لم نستطع تقليدٍ غيرنا واتباع دُرجاته فلن يُعترَف بها. لكنّ الاعتراف لا يكفي، إذ عليّ إظهار نفسي المرّة تلو الأخرى ليصحّ الاعتراف بي.

الدُرجة تُرى بالفُرجة: أتفرّج على دُرجة عند الآخرين وأريد من الآخرين التفرّج على دُرجتي. الجميع يتفرّج على الجميع. مجتمع الدُرجة هو المكمّل المنطقيّ لمجتمع الفُرجة، والعكس صحيح.

هذا في شأن الثياب والألبسة وما شابهها من مقتنيات يتزاحم البشر على الاستحواذ عليها لرغبةٍ منهم في الشعور بالتميّز وتعظيم رأسمالهم الرمزيّ وموقعهم الطبقيّ، الحقيقيّ أو الموهوم. ولكن هل يصحّ ما قيل عن موضة الثياب والمقتنيات في ما خصّ حدثًا جماعيًا عظيم الشأن مثل الثورة؟ هل تصبح الثورة موضة أيضًا؟

قد تصبح الثورة والكلام الثوريّ دُرجة وفُرجة. أعود مثلاً إلى الانتفاضة اللبنانية وأرشيفها المليء بالثوار من كلّ حدبٍ وصوب. أطياف واسعة من البرجوازية اللبنانية المتخمة بالثروات المنهوبة صارت بين ليلة وأختها ثوريةً تريد إسقاط النظام وتُنشِد التغيير. أصبحت كلمة ثورة ترندًا ولقبًا وسلعةً للتشاوف. صار الكلّ ثوريين وثوريات، هكذا فجأةً، وصار الكل يتزاحم ليلبس أحدث أزياء الثورة. وكالموضة أرادت هذه الأطياف (رجال أعمال واعلاميين وزعماء ميليشيات وانفلوانصرز..) أن تكون الثورة نظيفة… فلا يصحّ للدُرجة أن تكون بالية ومتسخّة بأفكارٍ عفى عليها الزمن ولم تعد "دارجة". هكذا كنا شاهدين وشاهدات على استعراضات ثورية لا تنتهي، وعروض جماهيرية في الفنّ الثوري البرجوازيّ (التافه حكمًا، وكلّ ما تنتجه البرجوازية، كاللبنانية منها، في الفنّ هو تافه ورخيص القيمة الجمالية والإنسانية ولكنّه برّاق فقط). موضة الثورة قضت على الثورة، والثوريون المتزيّنون مطلقو آخر صيحات الخطابات والتنظير أبعدوا بما يملكونه من "دُور عروضٍ" إعلامية كلَّ هؤلاء الذين كان يمكن لثورة حقيقية - ليست تقليديةً ولكنّها ليست أيضًا "مودرن" على الطريقة البرجوازية التي لا تتسّع إلاّ للابسي البدلات والكرافاتات والفساتين والأحذية الدارجة التي تبهر العيون - كان يمكن لها أن تنتشلهم من بؤسهم.

ولكن، هل يمكن للدُرجة أن تنضح بنزعةٍ تمرّدية ما؟ أو هل يمكن للدُرجة أن تكون ثوريةً حين تطلقها جماعات على هامش المجتمع ورقابته في محاولةٍ منها لتمييز اختلافها وتصوير رفضها؟ إذا كان المقصود بالثورية والرفض هنا وصفًا لوضع انقلابيّ على الوضع السائد وأنماط عيشه، فلا نعتقد بأنّ الدُرجة تختزن طاقةً ثوريةً فعليةً قادرة على تأسيس نمطٍ جديدٍ من الحياة ينفلت من آلة الهيمنة السائدة حتى ولو فرّت للحظةٍ من ميكانيزمات استحاكمها ورقابتها. الدُرجة هنا تكون لحظوية وظرفية، وفي جوهرها ارتكاسية الطابع أكثر ممّا هي إثباتية. وعدميتها، طالما لا تعترف بالسائد من القيَم، لن تكون أكثر من قيمٍ مقلوبةٍ ولكن جديدة. ومن مفارقة الدُرجةِ المتمرّدة أنّها تستعين بقديمٍ أو بدُرجةٍ مضت لتشرّع لنفسها اختلافًا أرادته، لكنّه يبقى اختلافًا متوهمًّا إذ لا ينبجس عنه إلاّ تكرار نسق ظهور الدُرجة في النظام المهيمن ككلّ. الدُرجة بنت هذا النظام، وأيّ محاولةٍ لقلب النظام يقتضي إلغاء منطق الدُرجة بحدّ ذاته، وذلك بإلغاء منطق الفُرجةِ بما هي تأكيدٌ سلبيّ لاختلافٍ زائف.

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button