لماذا‎ ‎يستعمل‎ ‎العشاق‎ ‎مجازًا‎ ‎يحيلون‎ ‎به‎ بعضًا من فنون ‎العشق‎ ‎إلى‎ ‎سرقة؟ هذه‎ ‎تسرق‎ ‎قلب‎ ‎ذاك،‎ وذلك‎ ‎يسرق‎ ‎‎عقل‎ ‎تلك. ‏‎وفي‎ ‎أغنيات الغرام، تخبرنا "من‎‎ ‎عزّ‎ ‎النوم‎‏ بتسرقني..."‏‎ ‎وفي ثانية يقول إنّه "سرقني مادريت إنَّه سرقنـي ..سلبني وأحسب إنَّي فاطنٍ له"‎ أو في أحوال المتصوّفين نقرأ "سَرَقتَ الغُمضَ مِن مُقلَتَي يا سارِقَ الكُحلِ مِنَ العَينِ"... إلخ.

وفي يومياتنا نحن العامّة كثيرًا ما نستخدم صور السرقة والسلب لنصِفَ أفعالَ عشقٍ تطيب لنا (أو ربّما نذمّها)، وفيها ندلّ على شدّة آصرة عشقنا وولهنا بآخرٍ معشوق. ‎هذا‎ ‎ليس‎ ‎مجرّد‎ ‎مجاز‎، أو غزلٍ وألاعيب كلمات.‎ وفليكن مجازًا، ولكنّ المجاز واقعٌ مكثّف لا يخلو من حقيقة. ونعلم أنّ السرقة‎ ‎استيلاء على موضوعٍ للغير من دون موافقة هذا الغير. ‎ورغم‎ ‎ذلك،‎ ‎ففي‎ ‎حالة‎ ‎عاشقيْن‎ ‎يصبح‎ ‎هذا ‎”الاستيلاء"‎ ‎‎مرغوبًا‎ ‎ومرْضيًا ومستحبًّا بين العشّاق. وفي أولى لحظاتِ العشقِ، تُسرَق القلوب لذةً وتُسلَب النظرات فتنةً، ويتخلّى عاشقٌ بكلّ طيبة خاطرٍ عمّا يملكه. ‎هو شيءٌ من درجات العنف غير العنيف، حيث تتقاطع اللّذة والرغبة والخيال. ‎السرقة العشقية، لو أمكننا تسميتها كذلك، هي فعلُ رغبةٍ "لا شرعيّ" يتحرّر ممّا يشرّعه بناءٌ إجتماعيّ. وفي‎ ‎السرقة‎ ‎العشقية،‎ ‎المسروق‎ ‎يبحث‎ ‎عن ‎ ‎سارقه‎ ‎ويرغب فيه بقدر ما يرغب العاشق بسرقة أهواء معشوقه. ‎هكذا‎ ‎تتقاطع‎ ‎رغبتان‎: أن‎ ‎نسرق‎ ‎وأن‎ ‎نُسرَق. هو ليس نقصًا أو حاجةً بل منحة متبادلة بين لصوصٍ عاشقين. إنّها، أي السرقة هذه، انشقاقٌ، باللّغة والخيال، عن انتظامٍ عامٍ يتسامح مع عشقٍ تريده منظومة قيَمٍ سائدة، وعن تصوّرٍ أخلاقويّ بحت لفعل السرقة ذاته.

وفي‎ ‎العشق‎ ‎نجد حالات‎ ‎شبيهة‎ ‎بفعلة‎ ‎اللصوص: ‎الخلسة،‎ ‎والهروب،‎ ‎والتخفّي، وكذلك الخطف.‎

يختلس‎ ‎العشاق‎ ‎النظر‎ ‎إلى‎ ‎بعضهما أو كما قال المتنبي أُسَارِقُكَ اللّحْظَ مُسْتَحْيِياً. ‎يهربان‎ ‎معًا،‎ ‎ويتخفيان‎ ‎معًا. ‎ومثلما‎ ‎نتخيّل‎ ‎أن‎ ‎فعل‎ ‎‎السرقة‎ ‎لا‎ ‎يكتمل‎ ‎إلا‎ ‎في‎ ‎مشهدٍ‎ ‎عاتمٍ،‎ ‎أي‎ ‎في‎ ‎عتمةٍ‎ ‎تستر‎ ‎فتنة‎ ‎السرقة‎ ‎حتى‎ ‎لو‎ ‎حصلت‎ ‎في‎ ‎وضح‎ ‎‎النهار،‎ ‎فكذلك‎ ‎العشق‎ ‎بما‎ ‎هو‎ ‎حالة‎ ‎من‎ ‎الكشف‎ ‎والستر،‎ ‎يبلغ‎ ‎جمال كشفه‎ ‎في‎ ‎العتمة، وفتنة خلسته في النور.

في "الصعلكة" بوصفها مسلكًا تنعقد فيه أفعالُ العشق والسرقة والمغامرة والاحتجاج، كانت لصوصية بعض الصعاليك، المغامرين والعاشقين، احتجاجًا ضدّ مظلمةٍ ونسقٍ يصنع الغنى والفقر، ولكنّه أيضًا يسلبهم معشوقتهم. وهكذا يتمفصل العشق والسرقة في حركةٍ احتجاجيةٍ واحدةٍ.

لا يكون فعل السرقة في حالةِ الاحتجاج تعبيرًا عن نقصٍ أو حاجةٍ أو طمع بقدر ما يكون طلبًا لمجتمعٍ متخيَّلٍ قوامه العدل والمساواة. ثمّ أنّ الفقراء والمظلومين حين يسرقون يكسرون أنساق الأخلاقيات السائدة ويشقلبون فئات الخير والشرّ والمحرّم والمسموح، وما تعاطف عوام الفقراء مع أصنافٍ من السرّاقين واللّصوص وقطّاع الطرق من طبقتهم سوى دليلٍ على انكسار هذه الأنساق الأخلاقوية التسلطّية الصلبة وانقلابها. وبالمثل، يكون العشق احتجاجًا على عالمٍ "لا قلب له"، وفعلاً طبقيًا يجابه فيه العاشقان شروط واقعٍ لا يرحم. هي سرقة فروسية، وهو عشقٌ فروسيّ. لا أتكلّم هنا على ذلك الصنف من العشق الذي يمكن وصفه بالبورجوازيّ، مع ما تضفي عليه شروط الحياة البورجوازية من صفاتٍ وأنماطٍ تجعله أقرب إلى الصفقة والرياء المتبادل! والتي تكون "سرقاته" أقرب إلى الرغبة بالاستيلاء والتملّك واستثمار الغير من أجل تعزيز مواقع القوّة وتأمين شروط التعنيف والقهر.

لكننا نستدرك كي لا "نؤمثَل" العشقَ ولا السرقة، إذ نعلم أنّ الأنماط السائدة من السرقات والعشق، ومن السرقات العشقية تنطوي على مظالم جندرية وشرورٍ اقتصادية واجتماعيةٍ وتعكس بنى سياسية وحياتية تسلّطية وتمييزية. فنقول إنّ السرقة كاحتجاجٍ طبقيّ تبقى أقرب إلى "الرومنطيقية" المشبوبة بالحماسِ والحلم، ولو أنّ الحلم شرط من شروط الثورة، ولكنّها، أي السرقة، لا تلغي شروط وجودها ووجود أشكالٍ أخرى منها ليست احتجاجية، ولا تقلّل من حدّة الاستقطابات الطبقيّة، بل تؤبدّها لأنّها تجد شرط وجودها فيها. كذلك، سرقات العشق، المشتعلة بالعاطفة واللذة، وإذ تشبه سرقات الصعاليك عندما تضمر احتجاجًا على السائد من قيمٍ وتقاليدٍ تريد "فضح" العشق بجعله مرئيًا وشأنًا عامًّا يستقيم مع ترتيباتٍ اجتماعية، وأبوية عنيفة، لكنّها، في المطاف الأخير، لا تلغي هذه الأخيرة، حتّى لو تمرّدت عليها وعطّلت، إلى حينٍ قصيرٍ، أخلاقياتها المحافظة.

ثمّ، ولأنّ شأنّ العشق من شؤون الصراع الاجتماعيّ (والسياسيّ) الذي يصبغ كلّ أهواء البشر وأفعالهم، وكما أفعال التمرّد والاحتجاج، ومثلها الثورة عندما تنتهي، غالبًا، إلى أن تصبح آلة تحكّمٍ وتسلّطٍ جديدةٍ، كذلك العشق في نزعاته الاحتجاجية وفي أفعال "سرقاته" كثيرًا ما يتحوّل إلى عملية تملّكٍ وإخضاعٍ، في خدمة عاشقٍ ذكرٍ غالبًا، حين يُستدمَج في آلة مجتمعيةٍ تشتغل وفق سيرورات تمييز وإقصاء وقتل. هنا، تصير السرقة العشقية الاحتجاجية استيلاءً قسريًا على حياة المعشوق المفترض، وهو غالبًا أنثى، ونهبًا لفرادة كيانه.

أن نتصوّر العشق شبيهًا بالسرقة الاحتجاجية المساواتية المطمح يعني أن نثمّن خطوط انفلاته التحررية وصبواته التمرّدية، وأن نربطه بشأنٍ سياسيّ وجماعيّ لا يرى العشق (وأصناف العلاقات البشرية الوثيقة كلّها) إلاّ ميدانًا للصراع بين التحرّر والاستعباد، وبين الكرامة والإهانة، وبين الحياة والموت… إلخ ويعني أيضًا أن نتعرّف إلى حدوده القصوى، ومخاطر تحوّله من مغامرةٍ حماسيةٍ وجماليةٍ واختلافيةٍ إلى رتابةٍ مقوننةٍ وتكرارٍ أجوفٍ يعيد إنتاج الكره والخيبة والاضطهاد. 

الصورة: فوق المدينة - مارك شاغال. 1918

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button