في الضباب تُحجَب الرؤية

سموغ

في كتابه "كيف نرى العالم"، يدعونا نيكولاس ميرزوف إلى التمعّن في مشهد الضباب والغوص فيه بعين ناقدة. ينطلق ميرزوف من الضباب الذي كان يغطي لندن القرن التاسع عشر، والذي تشكّل في تلك الفترة نتيجة عملية حرق الفحم الحجري كشرط لتوليد الطاقة ونمو "الحضارة". كانت هذه الظاهرة الجديدة حدثاً ثقافياً ملهماً. ففي تلك الفترة، برزت لوحات فنية لرسامين أوروبيين رسموا مناظر طبيعية من القارة الأوروبية كتعبير عن القوة الإقتصادية المهيمنة: الضباب الدخاني كرمز لغزو الرأسمالية للطبيعة. ورغم الطابع الرومنسي لتلك اللوحات، كانت تقول التالي: انتصرت الآلة في الحرب على الطبيعة. وهكذا، أصبحت جماليات الحداثة غالبًا من نِتاج الضباب الدخاني… التلوّث، فوَصَفه الشعراء مع احمرار السماء في قصائدهم. وتكرّر نموذج اللوحات الفنية التي تعرُض الموانئ المغطاة بسحب الدخان كمشهد مهيب وتجربة إنسانية غير مسبوقة. وسَكِرَ الإنسان الحديث بالجمالية الجديدة… لا برهان أوضح على تحويل مشهد التلوّث القاسي إلى حالة شاعرية أكثر من استبدال كلمة smog (ضباب دخاني ناتج عن تراكم دخان المصانع والقطارات في المدن) بكلمة fog (ضباب طبيعي أو سحاب منخفض ينتج عن بخار الماء). أخفت اللغة المكثّفة بالوهم حقيقة ما يُفتَرض أن تراه العين بسهولة: أن هذه الحضارة الجديدة تأسست على أنقاض الفحم المشتعل وبين أعمدة الدخان. وأصبح الضباب اللامتناهي سمة من سمات الحياة في لندن. تطلّع السائحون إلى رؤية "الضباب"، واشتاق سكان لندن إلى الـ London fog كلما انحسر أو غابوا عن المدينة.

استقرّ الضباب الدخاني ليصبح جزءاً من "طبيعة" المدينة. بل فُرض - كـ"اليد الخفية" - على متاجر المدينة وأعمدة الإنارة المزروعة في الشوارع أن تضيء أنوارها قبل ساعتين من غروب الشمس. يكتب تشارلز ديكنز: الضباب في كل مكان، و"في قلب الضباب" تقع المحكمة العليا التي تنظر في القضايا المتعلقة بالممتلكات. يرمز الضباب إلى المكانة المهيمنة لسيادة القانون في عصر الحداثة، فهو يمتد إلى كل ركن من أركان حياتنا. هو الآن خلفية المشهد الذي يحيط بالأنشطة البشرية جمعاء. ولما كان القانون، من وجهة نظر المستعمِر، يفصُل "المتحضّر" عن "الهمجي" نتيجة غزو الطبيعة، كان الضباب (كمشهد بصري) هو في آن معاً المنتج الثانوي المرئي لتراكم الثروة ووسيلة إخفاء ديناميات الفتح الدموية.

خلف تلك الواجهة الضبابية التي تجعل العالم لا مرئيا، يتخفّى عمال المصانع. وجوههم شاحبة، ملابسهم ممزقة، وأيديهم مغطاة بالفحم الحجري الأسود. كان عليهم أن يجهدوا داخل الآلة لأكثر من 12 ساعة في ظروف صعبة، هم وحدهم شاهدوا قلب الآلة وقساوتها بأم العين ولم ينغشّوا بضباب المدينة الشاعري. انتشر الضباب بهدوء، استخرج طاقاتهم كما تُستخرَج الموارد من المستعمَرات، استقرّ في رئاتهم، قتلهم. تحوّل هذا المشهد إلى ما بات يُعرف بنمط الـ steam punk أو البانك البخاري وهو فئة جمالية تستعير من القطار عنصره الأساسي: الدخان المتصاعد من القطار والمصنع، شخصيات ترتدي ملابس ذات نمط فيكتوري وجوهها شاحبة حدّ الإختناق، ترتدي نظارات تحميها من الدخان، وتستخدم آلات للتنقل والقتال كما لو أن الإنسان جزء من الآلة الهادرة. وكما هي الحال مع اللوحات الفنية الرومنسية، تخفي هذه الجماليات الواضحة الحقيقة حتى ولو ظهّرتها. والقاعدة هي نفسها اليوم. ننظر إلى الضباب بعينين. الضباب الدخاني الناتج عن المصانع في الصين يظهر في وسائل الإعلام الغربية، في حين يتم تجاهل دخان مصانع أوروبا وأميركا الشمالية. كما يتم تجاهل حقيقة أن الولايات المتحدة هي أكبر منتج لهذا الدخان في التاريخ. بمعنى آخر، لا يزال الضباب الدخاني يتمدد في القرن الحادي والعشرين، مغذّياً حوالي ثلاثين بالمئة من نشاطنا البشري. ويستنتج ميرزوف: ما زلنا بحاجة لمزيد من الوقت كي "نرى" الضباب (الدخاني). لكن ضباباً جديداً بدأ يتشكّل من حولنا أيضا.

كلاود

وكما شكّل دخان لندن صورة العالم الذي صنعته الآلة قبل مئتي عام، حلّ نوع جديد من الضباب زائراً في عقولنا زرعته آلة العصر الرقمي. قد يكون من المفيد الإشارة أولاً إلى مصطلح "حوسبة سحابية" (cloud computing) وهو الوصف الرائج للبنى التحتية المعقدة والخدمات الالكترونية التي تمتد إلى جميع تفاصيل حياتنا وتؤثر فيها. وكما أخفى الضباب الدخاني المدينة الصناعية، كانت الـ cloud (السحابة الالكترونية) تخفي خلفها شبكة معقدة من الأنظمة الحاسوبية، والخوادم، والكابلات، والخوارزميات، والطاقة الهائلة التي تغذي كل هذا العالم. وفي مصطلحات اللغة أيضاً، سمّيت الهندسة التي تشكّل نماذج الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة "الشبكة العصبية" (Neural Network) مستعيرة إسمها من شبكة الخلايا العصبية البيولوجية في دماغ الإنسان. وُلد الضباب الجديد ككائن غير مرئي، ولكننا بالتأكيد نشعر به أكثر يوماً بعد يوم، شبكة غير مرئية من العُقد التي تربط البيانات وتبني علاقات في ما بينها. بعد 200 عام على استقراره في رئة الإنسان، انتقل الضباب إلى عقولنا بفضل هذه الشبكات العصبية التي أخذت دور العقل في تحديد خياراتنا وسلوكنا وقراراتنا وما نستهلكه من غذاء للجسد والروح. الآلة نفسها التي انتصرت على الطبيعة في القرن التاسع عشر، ها هي تنتصر على إنسان القرن الواحد والعشرين أو ما تبقّى منه. 

تصيبنا الصدمات الإلكترونية المتتالية في مقتَل لتخلق صدمة نفسية تبدّل نظرتنا إلى الواقع. كلما زاد الضباب كلما تملّكنا الضياع وسرنا كالعميان نحو قلب الآلة. هذه الضوضاء التي أصبحت سمة سنة الكورونا سمّيت بالـ Pandemic Fog، ومن أعراضها المحسوسة التعب والانفصال والوحدة وقلة النشاط وعدم القدرة على التصرف على "طبيعتنا". شتّتنا الضباب مجدداً. قتلَ الإرادة فينا، الفرادة، والخيارات، ليسمو كل ما هو باهت، متشتت، مضجر، بليد، كسول، يدعو للغثيان، الطاعة، أصبنا بالعمى، تحوّلنا إلى آلة صدئة.

تغوص شوشانا زوبوف في قلب الآلة لتستطلع ديناميات المسخ الذي يحرّك عالمنا. تسمّيه "رأسمالية المراقبة". كما يستحوذ مصنع القرن التاسع عشر على القيمة من طاقة العمّال ويصدر الدخان من داخونه كمنتج ثانوي لتراكم رأس المال، يستخرج مسخ شوشانا زوبوف القيمة منّا، نحن الهائمون في سحابة الانترنت، لينتج القيمة ويغلغل الضباب في عقولنا أكثر فأكثر. وجوهنا شاحبة مثل عمال المصانع، مرهقين حتى الموت. في اقتصاد التنقيب، يراقبنا المسخ على مدار الساعة من خلال الحاسوب والهاتف، تجهد خوارزمياته لاستخراج عواطفنا والتأثير عليها لخلق قيمة في العالم المادي. بدلاً من الفحم الحجري، يستخرج المسخ من مناجمنا مشاعر وتفاعلات ويحولها إلى بيانات توجّه الأفكار والنصائح، تحدد ما هو رائج، ما هو مهم وما هو أقل أهميّة، يفرض علينا استهلاكها. بمعنى آخر، ينتج عن كل شعور إنساني سلعة. نشعر بالضباب يزداد كثافة من حولنا، يسيّرنا إلى حيث لا ندري. نحرق طاقتنا لنولّد الطاقة للآلة. نفقد أي قدرة على التحكم بأقدارنا، نتابع تصفّح الشريط الإخباري بإبهامنا كحيوان الهامستر. إننا في عالم ما بعد الخيال العلمي ولكننا اعتدنا تجاهل المجزرة. 

طوني

كان لي صديق في المدرسة اسمه طوني. عندما سمع كلمة smoke machine لأول مرة وفهم معناها، أصابه الذهول وكأنه اكتشف عالماً جديداً يتجلّى أمام عينيه. ذُهل وكان كلما شاهد أثر الـ smoke machine (أي الآلة التي تنفخ الدخان الأبيض في الحفلات) على التلفاز وفي صالة رقص صَفن فيها كالطفل الحالم. وكان يردّد الكلمة بطريقة عشوائية متى رجعت إلى ذهنه. والحقّ أن هذه "المكنة" آلة سحرية، تحوّل المشهد الممل في الصالة إلى جوّ شاعري، تجذبك إليها، تناديك لكي تدخل فيها، تريد أن "تولّع الجو…والجوّ يولعنا"، أن تذيبك في ضباب اللاشيء. ولكن الحقيقة-الحقيقة هي أن دخانها، متى استنشقته، يبعث بالغثيان حدّ الإختناق، فما إن وجدت نفسك في قلب الواقعة-المقتلة سارعتَ تركض بحثاً عن طريقة للخروج منها.  

في مدينة الواقع، لا مفرّ من الضباب

حدّق طويلاً واقرأ اليافطة

"أهلاً بك في قلب الآلة."

صورة: Westminster - Giuseppe de Nittis

كن جزءًا من مشروع "رحلة"
وادعَم صُدور النّسخة الورقيّة الشهريّة

لمزيد من التفاصيل أنقر هنا
Patreon support button